آخر الحلول… هل اقترب إعلان استقلال جبل لبنان؟
«لأ مش ماشي الحال». الصيغة اللبنانية، بما آلت إليه، تحوم حولها ألف علامة استفهام. هناك من يريد أن ينسفها عن بكرة أبيها وهناك من يريد ترميمها وهو عارف أنها في العناية الفائقة. ثمة حقد دفين وهناك جهل عميق وهنالك مشاعر طاغية بقوة فائضة من طرف على طرف. فهل هكذا تبنى الدول؟ ولماذا في كل مرة يقال: فلتطبق اللامركزية ولتكن تشاركية واحتراماً للخصوصيات، تتقدم أصوات تتهم من يطالب بها بالتقسيم؟ هل الفدرالية هي حلّ؟ الفدرالية ليست تقسيماً بل هي إتحاد. فلماذا الخوف منها؟ وهل نحن نعيش في دولة لنخاف من الفدرالية؟
الدكتور هشام بو ناصيف، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كلاريمونت في كاليفورنيا، ينغل اليوم بدينامية رافعاً شعار الفدرالية. هو إنسانٌ مليء بمشاعر وطنية قصوى، فهل علينا أن نصوّب عليه ونعتبره خائناً؟ هل سمعناه بأذنين مفتوحتين؟ وهل سيؤول حراكه الى لا شيء، كما حراك الأستاذ أنطوان نجم منذ عقود، في اتجاه التحوّل نحو الفدرالية؟
فائض القوة
البلد مش ماشي. والحلّ؟ نهاجر أم نبحث عن سبل لبقاءٍ حرّ وسيّد ومستقلّ؟
البارحة وقف علي حسن خليل في قلب البرلمان ليقول عن شخص وحزب وعائلة: «مجرمون أولاد مجرمين أسرة مجرمة». هو نفسه عاد واعتذر. لكن ما قيل قد قيل. هو يعتبر أنه «قوي» جداً في صيغة مهترئة. وقبله رأينا من يحطم المقاعد في لعبة رياضية ظناً أنه بذلك يحطم رأس منطقة مختلفة عنه في ملعب فؤاد شهاب. وقبل ذلك، سمعنا من يطلق نسبة على المسيحيين: 19 في المئة، عن قصد أو عن غير قصد، للقول إن فئة ما عادت تصلح للحكم والقرار. وأن فئة هي اليوم في أوج قوتها. إنه طرح إقصائي في دولة تتحدث عن الإنصهار الوطني الذي لا يصلح إلا للمعادن لا للبشر. وقبل كل ذلك، اشتعلت حرب العصابات قرب مطار رفيق الحريري الدولي فطار الرصاص في كل الإتجاهات صوب الطائرات المدنية وتجنب لبنان الكارثة بالصدفة. فقام «الفدراليون» وطالبوا بتشغيل مطار بيار الجميل الدولي في حامات ومطار القليعات فنعتوا بدعاة الفدرالية المرفوضة. وبعد ذلك عشنا أياماً في توقيتين: نادى فيه من نادوا: «شيعة سنية والساعة عربية» ونادى الفدراليون: فليكن #توقيت_جبل_لبنان. فهل لدى «الفدراليين» جواب على الطرح والواقع؟ يجيب هشام بو ناصيف «لا أعتقد أن رفض الفريق الشيعي بالتحديد للامركزية له علاقة بالخوف لأن لا الفدرالية ولا اللامركزية تخوفان بل تسمحان لكل منطقة بالتحكم بقراراتها التنموية. فيحق لمنطقة صور، على سبيل المثال لا الحصر، بإنشاء قطارها إذا شاءت وأن تفرض يوم الجمعة والسبت عطلة. لا شيء يخيف من الفدرالية إلا من يريدون الهيمنة على موارد البلد ليصرفوها في مناطقهم وفرض خياراتهم السياسية على البلد. إنهم يريدون الذهاب الى سوريا، والحرب في سوريا، وعلى الجميع تحمل التبعات. إنهم يريدون عزل لبنان عن العرب وعلى الجميع الإنصياع».
حين أطل من يقول: فدرالية خرج من ينعت القائل باللاوطنية! وحين خرج من يُذكر باللامركزية الموسعة أطل من يُهدد بنسف الطائف!
تُرى، هل هكذا يكون العيش المشترك؟ نظرياً، لا! ماذا عن الواقع التطبيقي؟ ماذا عن الوطن الواحد والشعب الواحد والرؤى الواحدة والأمن الواحد والجغرافيا الواحدة؟
ندخل الى بيروت فنراها اثنتين: شرقية وغربية! شرقي بيروت بمعظمه للمسيحيين وغربي بيروت بمعظمه للمسلمين، وفي الشق الإسلامي من بيروت، نعبر من المنطقة السنية – حيث يرفرف ما تبقى من الأعلام الزرق – الى المنطقة الشيعية في بئر حسن وفي الجناح وحارة حريك والغبيري وحي السلم والشياح وبئر العبد، حيث ترتفع اليافطات الصفر وشعار «لبيك زينب» وصور سيد «الحزب» واللواء قاسم سليماني والإمام الخميني والمرشد الأعلى الخامنئي. يعني حتى في قلب العاصمة الواحدة التي يُفترض أن تبقى في أي نظام فيدرالي أو كونفدرالي أو لامركزي واحدة موحدة هناك «تقسيم» طائفي «قح»!
ويُحذروننا من الفدرالية!
نخرج من بيروت، نتجاوز قطوع محور «طريق الجديدة – الجناح» ونتابع في اتجاه أوتوستراد صيدا. نقطع ساحل منطقة وليد بك جنبلاط ونكمل صوب منطقة آل الحريري. نتناول «السنيورة» ونتابع صوب الشريط الحدودي، وبين بين، بين صيدا السنية وصور الشيعية حيث كان يحلو لزوار جارتها الزهراني «أكل السمك»، تكرج عشرات قرى الدويلة الشيعية. ندخل الشريط الحدودي، على بعد مئة وخمسة كيلومترات عن بيروت، فتكرج المناطق الشيعية مع بعض الإستثناءات المسيحية: رميش، دبل، عين ابل، القليعة… مناطق «قفرة نفرة»! تُقطّع أوصالها قرى شيعية بحت. أما القرى السنية فست: يارين ومروحين والضهيرة والزلوطية والبستان وأم التوت. تقسيم مناطقي موصوف بين سنة وشيعة ومسيحيين ويأتي من يُحدثنا عن العيش المشترك!
إنهم يكذبون علينا؟
ننزل مجدداً في اتجاه بيروت، نبحث عن الدولة بالسراج والفتيلة، نطلع الى الشوف، الى الحصن الجنبلاطي في المختارة، نسرح في الشوف ونستريح في دير القمر. وحدهم المسيحيون ينتشرون، أو كانوا ينتشرون، على مدى الوطن.
ثمة حدود للطوائف في كل الجغرافيا اللبنانية. نتجه صوب جبل لبنان الشمالي وكسروان وجبيل والبترون. هذه مناطق مسيحية. نُكمل صوب الشمال. زغرتا لبيت فرنجية. طرابلس قلعة المسلمين. عكار مسيحية – سنية. جميل التعايش. ننزل صوب البقاع. عرسال سنية صرف. الهرمل شيعية صرف. وبين بين القاع المسيحية الجميلة. نعود الى بيروت فتكرج صور قتلى الحزب الأصفر في سوريا مذيلة بعبارة: المقاومون الشهداء!
زحلة مربى الأسود تزين البقاع وتعطيه لوناً طائفياً مختلفاً. وفتاة الكرمة تستقبل الزائرين. النبيذ مسموح في زحلة وممنوع في الجوار. تعايش.
كانتونات ومحاصصات
بدنا الدولة. بدكم الدولة؟ هناك من يجيبون بالإجماع نعم. وهناك من يبتسمون في سرهم مرددين مثل الببغاء: نعم. وهناك من يقولون نعم ويعملون على وأد الدولة. بربكم كم من مرة ومرة سمعتم هذا النداء: بدنا الدولة؟ أين ضمان الشيخوخة؟ أين الضمان الإجتماعي العادل؟ أين الكهرباء؟ ولماذا كان هناك دائماً «إيد وأرجل» في توزيع الجسور والهبات والمشاريع الحيوية بين المناطق؟ لماذا يُفلش زفت وزارة الأشغال سميكاً في مناطق ورقيقاً هزيلاً بائخاً في مناطق أخرى؟ ولماذا كلما أراد وزير الكهرباء أو أي موظف في الوزارة – على سبيل المثال لا الحصر- معاقبة منطقة أنزل هاوس الكهرباء فيها على هواه؟ فلتطبق اللامركزية ولتأخذ محطات الكهرباء، المقسمة واقعياً على الكانتونات في المناطق، مهمة إنزال الهاوس أو رفعه. فهناك في منطقة كسروان محطة الذوق. وفي الجنوب محطة الزهراني. وفي البقاع محطة عبد العال التي تغذي مشغرة وسحمر ويحمر ولبايا وزلافة والقرعون وعيتنيت وباب مارع ودير عين الجوز. وفي……. سدود المياه ايضا تكاد تُقسم مناطقيا او طائفيا: سد شبروح للمسيحيين وسد اليمونة للشيعة وسد بلعا لأهالي البترون وسد القرعون على نهر الليطاني. دعونا نتحدث إذا بصراحة عن اللامركزية التي نص عليها اتفاق الطائف. انها مطلب. فنحن اللبنانيين لسنا بحاجة أن نصل الى المريخ قبل أن نصل الى مركز المعاينة الميكانيكية الرئيسية في الحدث.
لا ثقة
اللبنانيون، كل اللبنانيين، غير واثقين بهذه الدولة، المستسلمة الى دويلة، لهذا يتكتّل غير الممانعين في مجموعات سياسية وأحزاب. إنهم يبحثون عن الأمان في قلب طوائفهم وعشائرهم ومناطقهم لا في قلب الدولة. انهم ما زالوا يتمسكون بحدود أيام الحرب. بيروت الشرقية تستمر مسيحية وبيروت الغربية إسلامية والمدن الساحلية، أي طرابلس وصيدا، سنيتان، وقضاء كسروان ماروني والكورة أرثوذكسية والجنوب ذو غالبية شيعية والشوف وعاليه منطقتان درزيتان. هذا هو لبنان. وهناك في لبنان هذا من يريد أن يبلع كل الآخرين متباهياً أن يكون فرداً في حزب ولاية الفقيه لا في لبنان الحر السيد الديموقراطي.
فلنعد الى هشام بو ناصيف. هو يقول: «إنهم يصرون على أن نعيش الإزدواجية والباطنيه. يقولون: نريد الحفاظ على العيش المشترك ويضربون هذا العيش ووحدة لبنان واللبنانيين. وضمناً، لا أحد مع إتفاق الطائف. لهذا، أتى وقت الكلام بصراحة والسؤال: وماذا تريدون بالفعل لا بمجرد القول؟ لا بُدّ من تطوير فكرة الفدرالية لأنها آخر محاولة للحفاظ على لبنان الـ 10452 كيلومتراً مربعاً. وأقولها اليوم، عن إقتناع كامل، نحن ننتظر لكن لن يمكننا الإنتظار الى الأبد. إنهم يريدون أن يحكمونا على قاعدة Ruling but not Governing».
ماذا قصد بو ناصيف حين قال: لن ننتظر الى الأبد؟ ماذا عن الخيارات المتاحة؟ يجيب: «إعلان استقلال جبل لبنان».
هشام بو ناصيف، الأستاذ الجامعي في كاليفورنيا، ما زال يأمل بلبنان، بلبنان ينتمي إليه بالروح وبالدم وبالجذور على قياس أحلامه وأحلام أولاده. فهل هذا كثير؟
لا تريدون الفدرالية، طبقوا اللامركزية. إنها من صلب الطائف. فلبنان القاتم، الذي هو على مقاس المعترضين، ما عاد صموده ممكناً. فلبنان، «بنسخته المشوهة»، كما سماها الأستاذ سجعان قزي، تتواطأ عليه وفقدت قابلية العيش و»حان الوقت لنختار نظاماً للبنان لا لطائفة». وكم من المسلمين، في لبنان اللامركزي، سيختارون العيش في بقعة لا سلاح عشوائياً فيها ولا خبث ولا ازدواجية معايير.
الفدرالية تخيفكم؟ طبقوا اللامركزية التي نصّ عليها الطائف يوم ولد.
ثمة مجتمعات تقفل على ذاتها بحجة أن اللامركزية تقوي الطائفية بينما من ينظر الى الجغرافيا اللبنانية يرى أن بعض الطوائف مركزة فعلا في مناطق. فاللامركزية في كسروان لن تغير شيئاً في المعادلة الطائفية القائمة في كسروان. من يُفكر أن اللامركزية طائفية ينطلق من فكر ايديولوجي لا إداري. وطالما نحن نحيا في ايديولوجيات فستظل السلاسل والأغلال الحديدية في أيدينا وأقدامنا ولن تسمح لنا المضي قدماً لا في اللامركزية الإدارية ولا حتى في بناء وطن.
لا، لبنان مش ماشي. إنه يغرق يغرق يغرق… فهل تنتظرون السقوط الأخير حتى تنعوه؟
إذا لم تكن الفدرالية، فإن اللامركزية هي الحلّ الآني في دولة بنت فيها طوائفها حدودها بلا جميل أحد. ومن لا يُصدق فلينظر حتى الى دور المسنين المنتشرة في كل أنحاء بيروت، فهناك لكل طائفة دور: المأوى الماروني، المأوى الأرثوذكسي التابع لمستشفى القديس جاورجيوس، مأوى دار العجزة الإسلامية، المأوى الدرزي… ومن لا يُصدق بعد فليراجع لائحة المستشفيات والجامعات والمدارس… اللبنانيون قسموا أنفسهم واقعياً واللامركزية هي التي قد تعيدهم الى الدولة… فهل ينظر من أوكلوا أمر البلاد والعباد الى الداخل اللبناني قليلاً أم سيظل ينجح من ينظر الى ما بعد بعد حيفا بحجب الهم اللبناني حتى إشعار آخر؟