كبر أنفي في مراهقتي، وزاد حجمه. ما أتاح لأبي وزملاء المدرسة فرصة التّنمر عليّ، كنت في الصّف التّاسع، وقد ساءت علاقتي بأبي، فلا أطيق ما يريده، ولا يعجبه ما أريد.
كنّا نتحلّق حول صحن زيت وزعتر، في صباح صيفيّ، وقد راح أبي يسأل إخوتي الصّغار عمّا يريدون أن يصبحوا، عندما يكبرون، تجاهلني، ولم يسلني، فردّدت بصوت خافت: “بدّي أعمل طيّار”، استفز همسي أبي. فنهض، وأمرني باللّحاق به، سألت أمّي: لوين يا جماعة؟! فاجابها، دون أن يلتفت: رايح أعمل ابنك بو منخير طيّار.
ركبت إلى جانبه في المرسيديس ال ١٩٠ الزّرقاء، تلك الّتي كان معدّل سرعتها بجانب المقود، كان أبي يشعل السّيجارة من سابقتها ليظلّ نصف أنفاسه هواء، ونصفها الآخر دخانًا، راح يقود، ويدخّن، ويردّد “بدك تعمل طيّار”، ويشتم ما يعيق تقدّمه من مركبات في الطّريق، فيتفل من شبّاكه بين الحين والآخر، كلّما احتد سعاله. وإذا تجاوز سيّارة في طلوع ظهر البيدر؛ أعطاها إصبعه الأوسط بيده اليمنى، فرحًا بنشاط ال ١٩٠ الّتي يملكها.
كان أبي شخصًا تنافسيًّا، يؤرّقه أن يستيقظ قبله أحد، أو أن ينجز قبله أحد.
امتلكته النّشوة، وراح يغنّي: “لاركب حدّك يا الموتور، ركب الطّيّارة غِيّة”
لم يكن المطار يومها قد تعرّض لتوسعته الحاليّة، ولم تكن قد حدّدت الحركة فيه، ومن حوله بعد.
عندما سأل أبي موظّف الاستعلامات في تلك الغرفة، الّتي كانت تتوسّط بهوه عن مدير المطار، راح الموظّف يهشّ بيده دخان سيجارة أبي، ويطرد خُلَله من النّافذة مطالبًا أبي بإبعاد سيجارته..
سعل أبي واحتدّ سعاله، فخشيت أن يتفل أرضًا، ويمسح بصاقه بحذائه كعادته، لذا ناولته فوطتي القماشيّة، الّتي كنت أحشرها في زاوية جيب سروالي الأيمن، لم يفردها، لكثرة تثنّياتها. مسح فمه بها، وأعادها إليّ.
أشار الموظّف علينا بالتّوجّه إلى الطّابق الثّاني، بعد أن امتنع أبي عن الإفصاح عن حاجته له، رحنا نمشي بمحاذاة الجدار، وقد أخذ يطلب منّي؛ أن أقرأ اللّوحات المعلّقة فوق أبواب غرف الطّابق الثّاني، حتّى بلغنا مكتب المدير، قذف بكعب سيجارته بعيدًا، ثمّ طرق الباب، ودخلنا.
كان المدير ينشغل بأوراق بين كفّيه؛ وقد أدار ظهره إلى نافذة زجاجيّة واسعة، تطلّ على طائرات في مدرج المطار، جلسنا صامتين، حتّى تنبّه أبي إلى طيّارة، رآها من النّافذة، لكمني بكوعه الأيمن، وسألني: “فيك تسوقها؟” تبسّمت خجلًا، وأحنيت رأسي، أحدّق في الأرض.
تنفّس المدير معتذرًا عن تأخّره، وسأل أبي عن حاجته، بادره أبي بالقول: شايف هالعينتين؟! نظر المدير إليّ، يتفحّصني.
كان وجهي مَقْلَعَ حبّ شباب، تحت شعر طال فوق رأسي كجبّ البلّان، انتعلُ حذاء صينيًّا بشريط، وصَلْته في أكثر من مكان، لكثرة تقطّعه. وأعتذرُ عن وصف البنطال والفانيلا.
تظاهرت أنّي أحكّ وجهي، وأخفيت أنفي خلف كفّي، فقد خشيت أن يرفضني المدير بسببه.
أكمل أبي: عندي ٥٠ دونم أرض، بدّي بيعن، وأعمله طيّار، اعتدل المدير في مقعده، وسأل أبي: شو معو شهادات إبنك.
فَرَدَ أبي أصابعه على مرأى من الرّجل، وهو يقول: عدّ معي.. معه سرتفيكا، ومعه بريڤيه، وداعس بالسّكونت.
تبسّم المدير بحذر، وقال: اللّه يحمي لك ياه. ولازم تعرف إنّه بكلّف بحدود الميتين ألف دولار، ليتخرّج.
نظر أبي إليّ، وسألني: سمعت يا بو منخير أديش بدّك لتعمل طيّار.
انفجر المدير ضاحكًا، فيما نفرت أنا راكضًا خارج المكتب، أبكي، وقد انهار حلمًا دام مسافة الطريق من منزلنا إلى المطار.
بعد مغادرتنا البيت صباحًا، مرّ صديق ببابنا سائلًا: وين جوزك ياه؟ فأخبرته أمّي بعفويّتها: نزل ع بيروت شوي؟!
كان الصّديق سليط لسان، فأردف يسأل: شو نزل ياكل خرا ببيروت؟!
مسحت أمّي جبينها المتعرّق، بساعدها الأيسر، وأجابت: نزل يعمل الصّبي طيّار!
فصرخ الرّجل: شو؟! لكلك هالحكي الخرا! وأقلع بسيّارته شاتمًا أبي وابنه الطيّار.
ظلّت أمّي تراقب مدخل الدّار. تنتظر عودتنا من بيروت. فقد أخبرت كلّ جاراتها اللّائي مررن بها عن ابنها الّذي نزل إلى بيروت، ليصبح طيّارًا.
لم يكن أبي في طريق عودته، كما كان في طريق ذهابه إلى بيروت،كان يقود صامتًا، يدخّن، ويسعل، ويدندن لحن “لاركب حدّك يا الموتور” لفهد بلّان.
أمّا أنا فقد طوّقت بذراعي ساقيّ اللّذين الصقتهما بصدري، وأسندت رأسي على ركبتيّ، أبكي واحدًا من عدّة أحلام طوّحها الفقر والجهل والبعد عن المدينة.
حين وصلنا البيت، حجلت أمّي باتّجاهنا، تستبشر خيرًا، وراحت تنمّق كلماتها، وهي تقول: ان شالله تسهّلت لكم؟! فرماها أبي بنظرة استنكار، لجمت صوتها، وراحت تكزني بيدها، وتسألني بعينيها، وشفاهها المزمومة، فأكتفي برفع كتفيّ، رافضًا الإجابة.
وضعت الطّعام، وناولت أبي رغيفًا، وجلست تنتظر، مرّت دقائق صمت قاتل على أمّي الّتي راحت توزّع نظراتها بين أبي وبيني، حتّى تجرّأَت، وقالت: يقطع مشوار بيروت.. بيهلك.. يعني كان لازم تنزلوا اليوم؟! كنت خليتوها ليوم ثاني!
مسح أبي فمه بقطعة قماش، كانت بجانبه، ثمّ أشعل سيجارة، وراح يعبّ دخانها في رئته، حتّى دمعت عيناه، فعاجلته أمّي بسؤالها مجدّدًا.
انفعل أبي، وأجاب: بدّك أنت وابنك بو منخير ميتين ألف خرا بحلقك وحلقه، لتعملوا طيار.
فردّت امّي ببراءتها، ودون أن تغضب: لكان علّمه سواقة السّيّارة.
تذكّرت هذا الموقف بعد أن سمعت دعم السّيد لفرنجية.