في الآونة الأخيرة، ومع اضمحلال هيبة الدولة اللبنانية ووجودها، وانتشار آفات اجتماعية كثيرة في الأحياء والمناطق اللبنانية المكتظة، كثُرت الإشكالات في منطقة برج حمود ومحيطها. فالمنطقة التي تشهد اكتظاظاً سكانياً كبيراً، متعدد الجنسيات، لم تعد كما كانت نهايات القرن الماضي، بل تحولت بفعل الفقر والنزوح وانتشار الجريمة إلى بؤرة فساد، تؤذي كل ساكنيها.
في الأيام الماضية كان الحديث عن برج حمود من زاوية الصدام الشيعي- الأرمني، وبوصفه صداماً طائفياً، وبرز من خلال بيان حزب الطاشناق، بعد إشكال 12 تموز الماضي، وجاء فيه: “لا يمكن التغاضي عن محاولات إثارة النعرات الطائفية في هذه الظروف الحساسة، كما لا يمكن الأهالي تحمّل العراضات والمظاهر المسلّحة والاعتداء على الحرمات والمقدّسات إلى ما لا نهاية”.
هذا كان بيان حزب الطاشناق عند وقوع إشكال في برج حمود في 12 تموز. وهذا البيان الذي كان قاسياً حرّك الاتصالات بين الثنائي الشيعي وحزب الطاشناق، خصوصاً أن الإشكال اتخذ شكلاً طائفياً بين الشيعة والأرمن، رغم أن أسبابه ليست كذلك، ثم جاء الإشكال في 13 تموز ليُسقط ضحية. وأيضاً “شاءت الصدف” أن يكون الإشكال أرمنياً شيعياً، فهل أصبح تعايش الأرمن مع الشيعة في برج حمود صعباً؟
المشكلة في مكان آخر
هذه الإشكالات نالت اهتماماً إعلامياً وسياسياً، على عكس عشرات الإشكالات التي تحصل في تلك المنطقة. ففي الساعات الماضية زار وفد من الحزب، ضم مسؤول العلاقات المسيحية الحاج محمد الخنسا، ومسؤول ملف الأحزاب الوطنية الحاج محمود قماطي، والنائب الحاج أمين شري.. أمين عام حزب الطاشناق النائب هاغوب بقرادونيان، وكان اللقاء بهدف بحث الحوادث الأخيرة في المنطقة.
وتكشف مصادر المجتمعين عبر “المدن”، أن وفد الحزب أكد للطاشناق أنه لا يحمي ولا يغطي ولا يدعم أي شيعي في المنطقة عند ارتكابه أي خطأ، وأنه يرفض أي ممارسات قد تُعتبر استفزازية لأي فئة من اللبنانيين، مشيرة إلى أنه تم خلال اللقاء الاتفاق على تفعيل التواصل والتعاون، في سبيل حل أي مشكلة قد تقع مستقبلاً. لذلك قد لا يكون مستبعداً إنشاء لجنة مشتركة من أجل هذه الغاية.
وبعدها، زار وفد من قيادة حركة “أمل” برئاسة النائب محمد خواجة، مقر حزب الطاشناق في برج حمود، حيث تم التأكيد مجدداً على فرادة المنطقة كمكان للعيش المشترك وضرورة أن تأخذ القوى الأمنية دورها كاملاً بقمع المخالفات.
ولكن، بعيداً عن حوادث برج حمود، ليست المشكلة بالغطاء الذي يقدمه الحزب لأحد، ولا حتى حركة أمل، مع العلم أن الاتهامات للطرفين بتقديم الغطاء لأشخاص يسيطرون على أحياء ومناطق هي كثيرة.. بل المشكلة بمن يتلطّى خلف الحزب أو الحركة لفرض سطوته على الآخرين. وهذه المشكلة ليست في برج حمود وحسب بل في كثير من المناطق التي تشهد تواجداً لبيئة الثنائي. فما حصل في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال إحياء ذكرى عاشوراء كان خير مثال على ذلك. فهؤلاء الأشخاص، وبسبب غياب الدولة، وشعورهم بفائض القوة نسبة لقوة أحزابهم، لا يُقيمون أي اعتبار للقانون. والمسألة هنا ليست متعلقة بطائفة ضد أخرى. فالمشكلة نراها حتى داخل الطائفة الشيعية نفسها. فكثير من الإشكالات المسلحة التي تؤرق السكان تحصل بين أبناء الطائفة نفسها، وعندما تغيب ثقافة القانون والعقاب والمحاسبة تسيطر ثقافة الرصاص واستسهال إطلاق النار، وفرض السطوة.
لا يُشكل هؤلاء الأشخاص داخل الطائفة الشيعية أكثرية، بل على العكس، الأكثرية تدفع الثمن. ولكنها تبدو عاجزة عن إحداث التغيير لكثير من الأسباب. هذه الأقلية السيئة بدأت تؤثر على صورة الطائفة ككل. إذ بات بعض اللبنانيين يعتبرون أن العيش إلى جانب الشيعة قد يصبح مع الوقت مستحيلاً.
ومع ذلك مشكلة أرمن برج حمود أكبر من ذلك بكثير.
قلق من هجرة أرمنية جديدة
ليست مشكلة الأرمن مع “بعض شيعة برج حمود” سوى جزء بسيط من مشكلة أكبر، فحوالى ثلث ساكني برج حمود، الذين يتراوح عددهم بين 150 و170 ألفاً، هم من الأجانب، منهم 35 ألف نازح سوري. كما هناك الآلاف من أصحاب جنسيات أجنبية، أسيوية وشرق أسيوية وإفريقية، حيث يُقدر عدد هؤلاء بعشرين ألفاً، وعدد كبير منهم لا يملك أوراقاً قانونية للإقامة والعمل في لبنان. وهناك وجود شيعي ومسيحي وأرمني. وبالتالي، كلما زاد الفقر وضعفت الدولة، كلما كانت المنطقة مهيأة لصدامات، سترتدي دوماً إما طابعاً طائفياً كما حصل مؤخراً، أو طابعاً عرقياً وعنصرياً كما كان يحصل في مرات سابقة.
في العام 1948 شهدت منطقة برج حمود خروجاً للأرمن الذين عادوا إلى أرمينيا، واليوم تحذر مصادر أرمنية عبر “المدن”، من احتمال ازدياد نسبة الأرمن الذين يقررون الرحيل من لبنان، خصوصاً الفئة الشابة منهم، التي لم تعد تجد بلبنان مكاناً صالحاً للعيش، كما أغلب شباب لبنان، سواء بالنسبة للوضع الاقتصادي الصعب، أو فرص العمل، أو حتى جدوى السكن في بلد ومنطقة بات العيش فيها صعباً. لذلك ترى المصادر أن مشكلة برج حمود، التي تحولت منذ 110 أعوام إلى منزل للأرمن الذين هربوا من القتل، قد تخسر هذه الصفة في المستقبل القريب.
مشكلة برج حمود معقدة ومركبة، لا يمكن فصلها عن مشاكل البلد الاجتماعية الكثيرة، ولا حتى مشاكله الاقتصادية، ففي تلك البقعة الجغرافية اكتظاظ سكاني كبير، وعند الاكتظاظ تُخلق فرص اقتصادية أيضاً، وعند ولادة الفرص الاقتصادية تُفتح شهية “ديوك الأحياء” على الكسب، وهذه كلها عوامل تؤدي إلى واقعنا المعاش في كثير من مناطق لبنان.
يعلم الحزب كما حزب الطاشناق أن منطقة برج حمود لم تعد كما كانت، وبالتالي فإن التحرك للحفاظ عليها لا يكون فقط من خلال عقد لقاءات بين الطرفين، بل من خلال استعادة دور الدولة، تنظيم النزوح السوري والوجود الأجنبي، ضرب الأجهزة الأمنية بيد من حديد لكل بؤر الفساد والجريمة. كل شيء سوى ذلك هو تأجيل لانفجار اجتماعي قد يكون محتوماً، في برج حمود وغيرها من المناطق المكتظة في لبنان.