إدمون رزق: جعجع أُحبّه وعون عقوبة لبنان والصلاة رفيقتي

إدمون رزق، اليوم هو عيد ميلاده. اليوم، في الحادي عشر من آذار، يبلغ عامه التاسع والثمانين، وخلاصة تجربة العقود التسعة يوجزها بعبارة: «ألف عام وعام في عينيك يا رب كأمسٍ الذي عبر». متصالحٌ هو مع نفسه. يصلي كثيراً. يسمع طرباً وموشحات. يقرأ كثيراً ويغني مع المغني الفرنسي «تينو روسي» Jardin Perdu. حوار مع الأستاذ إدمون، الذي لم تؤثر العقود التسعة لا على ذاكرته البعيدة ولا على صوته المنبري ولا على دقته في المرادفات المختارة، كما الإزميل في يدّ نحات. هو حوار تحدث فيه عن الوفاء والنكران والكتائب والطائف والموت والصلاة والمرأة والمرآة وعن رينيه، زوجته رينيه، عصفورة حبّه وملهمته.

العمر يركض بسرعة. يخبرنا ذلك ويبتسم قائلاً: «أنا من مواليد 1934، معناه أصبح عمري 89 عاماً». عمره ينتشر في الدار، في صور عديدة تجمع الأولاد والأحفاد ويتباهى فخوراً بكلِ واحد منهم. نسأله، حين تسترجع أياماً ولّت ماذا أوّل ما يلوح في عينيك؟ يجيب «أتذكر كنيسة مار يوسف، كنيستنا في جزين، وسنديان مار يوسف والشخاريب والردوم ومدفن العائلة ومدرستي مشموشي والحكمة».

نستمع إليه بإمعان ونحرص ألاّ نقاطعه. يقول: «ولدت في جزين على أيدي الطبيب حبيب بك ناصيف، عمّ والدتي، الذي كان نائباً في أول مجلس نيابي في لبنان. جدي، والد والدتي، هو سليم بك ناصيف، كان قائمقام جزين وأول شخص يحكم، أيام الأتراك، في بلده، وقيل عنه يومها «هو أوّل حاكم من أهله بسليمِ ناصيفٍ يعز قضاؤه». هذا كان جدي. والدي هو أمين رزق شاعر وأديب وكاتب ورئيس تحرير جريدة «الحديث» أيام صف الأحرف اليدوي. ولدتُ في جزين ومدرستي الأولى كانت راهبات القلبين الأقدسين ثم انتقلنا الى بيروت مع والدي وأول بيت استأجرناه في شارع عبد الوهاب الإنكليزي جنب كنيسة مارمطانيوس وهو الذي تحوّل اليوم وأصبح أوتيل ألبرغو. وأتذكر أنني كدت أقع ذات مرة عن السطح، من الطبقة الرابعة، وجدتي نشلتني».

القطوعات في الحياة طبعا كثيرة… ماذا عنها في حياة إدمون رزق؟ يجيب جازماً: «كثيرة كثيرة. عشنا في حرب 1941، حين كان الفيشي والحلفاء يتقاتلون. رأيت الحرب، بأم العين، في جزين يوم كان مدفع 75 يقصف من نيحا على جزين. ثم رأيت الفرنسيين يحاربون بالمغاربة والإنكليز بالأستراليين. عشت الحرب في الملجأ وبيتنا مبني من عقد، كان الجزينيون يختبئون عندنا» ويستطرد: «عشتُ تفاصيل مرحلة الإستقلال، كان والدي رئيس تحرير، عشنا المرحلة بحذافيرها وأتذكر صفير المدافع وانبطاحنا على الأرض».

المضيف

مرحلة الكتائب

إنتسب رزق الى الكتائب بعمر التسع سنوات ويقول «كان هناك شاب رياضي اسمه جوزف الحويك، ملقب بالزعيم، أنشأ فرقة من الشباب في جزين وكنت في عدادها. وأتذكر أن والدي هبّ، يوم انطلقت الكتائب في العام 1936، لمساعدة الشباب في التظاهرة الأولى التي تعرضوا في خلالها للقمع. وقف الى جانبهم ودافع عن حقهم بالتظاهر. لاحقاً، حين طلب مني الشيخ بيار الجميل كتابة زاوية «حصاد الايام» في جريدة العمل قال لي: «والدك كان له الفضل علينا وساعدنا في نشأتنا». وأتذكر أن الشيخ بيار كان يزور والدي المقعد، في آخر أيامه، ويقبل يده. الشيخ بيار كان شهماً وشريفاً وكم أتمنى أن يتكرر النموذج الذي قدمه للبنان».

بشير، الرئيس الشهيد بشير الجميل، كان – بحسب رزق «مثل أولاده» ويخبر: «حين كان دم بشير «فائراً» كانت لي تحفظات عليه لأن البلد لا يحتمل قوة مفرطة. لبنان بلد التسويات، ويفترض أن نكمّل جميعاً بعضنا. ويوم انتخب بشير رئيساً للجمهورية كنا نسكن في بيت صيفي، في فيطرون، فصعد الى منزلي في اليوم الذي تلا انتخابه وقال لي: أعرف أن لديك تحفظات على انتخابي لكني أتيت لأسألك وتنير دربي وأتعلم منك وطلب أن نقوم معاً «بكزدورة» بسيارته. سألني عن أشخاص وأجبته بحسب معرفتي عنهم وبهم وكان لديه تحفظات تجاه بعض هؤلاء. أخبرته أهمية استيعاب «فخامة الرئيس» للجميع والضدّ قبل الصديق». يغصّ، يفكر، يسرح في أرجاء الدار ويقول: «أعتقد الآن أن وجود بشير في الرئاسة كان فرصة تاريخية لأنه استجمع خلال 21 يوماً من إنتخابه مؤهلات للحكم الصالح. ضيعانه. ضيعان بشير. نحن الآن، للأسف، في دوامة، في حلقة مفرغة».

مات بشير أتى أمين (الشيخ أمين الجميل). ويقول رزق «في ذاك الحين أصبح الدكتور ايلي كرامة رئيس حزب الكتائب وأمين رئيس الجمهورية، ويومها قرر السوريون قطع دابر الطريق أمام كامل الأسعد، الذي شارك في صناعة بشير وأمين كرئيسين للجمهورية. أمين الجميل طلب انتخاب حسين الحسيني بدل الأسعد. الحسيني كان صديقي وأنا وكيله لكني كنت موقناً بعدم جواز الغدر بكامل الأسعد والطعن به. رفضت طلب الجميل وانتخبت – انا ولويس أبو شرف – الأسعد الذي نال سبعة أصوات (1984). كنا نعرف أنه لن يصل لكن موقفنا كان مبدئياً. هو دفع ثمن انتخاب بشير ثم أمين. السوريون أرادوا أن يدفع الثمن فهل مسموح أن نشارك نحن في الإنتقام؟ طبعاً لا. في اليوم التالي، إستدعاني أمين عام حزب الكتائب جوزف سعاده وسألني: من انتخبت؟ أجبته. فنظّم قراراً بفصلي أنا وأبو شرف من الحزب. ثم عادوا و»تبكبكوا» لنعود لكننا رفضنا. أخطأوا بحقنا. أخطأوا مراراً بحقّ الكثيرين في حين أن الشيخ بيار لم يكن ليفعل ذلك. كان نموذج رجل الدولة الذي يحافظ على مكانته من خلال حفظ كرامات الناس. لذلك كان المرحوم والدي يكرر عليّ أن الشيخ بيار آدمي شهم وشريف ولا يتكرر».

شخصيات كتائبية كثيرة لم تتكرر بينها «الشيخ بيار وجوزف شادر وموريس الجميل»، يُخبر إدمون رزق ذلك مشيراً الى أن من يتولون الأمور «يتكتلون ضدّ الشخص المؤهل ويعملون على إيصال من يستطيعون تجاوزه من دون أن يضبطهم» يضيف: «كان لي تقدير كبير للشيخ بيار الحفيد. أحب أيضاً سامي لكن لي مآخذ عليه، وأتمنى منه فسح المجالات لأن الأجواء تحتاج الى فتح النوافد. لا شيء اسمه الرئيس الأول والرئيس الأوحد. هناك، في الديموقراطيات، تداول للسلطة. ديموقراطيتنا نحن معيوبة وتوصل من هم الأكثر أنانية. يجب تطبيق تداول السلطة. لا رئيس مدى الحياة وأتمنى أن يستفيد سامي من المرحلة ويفهمها جيداً من اجل الحزب نفسه الذي أصبح بالكاد قادراً على تعبئة قاعة. يجب على الشباب أن يتعلموا أخذ مواقف مبدئية نظيفة بمعزل عن المواقف الأنانية».

جنبا الى جنب مع رينيه دائماً

جعجع والطائف وعون

بعيداً قليلاً عن «الكتائب»، يتحدث إدمون رزق عن سمير جعجع يقول «سمير أحبه لأنه أكثر من عانوا ودفع الثمن باهظاً. أخطأ الجميع لكنه وحده من دفع الثمن». ويستطرد: «نيال من يدفع الثمن في هذه الدنيا لا في الآخرة. لا شيء مجاني. اقدّر سمير كثيراً. معاناته كانت شديدة جداً في السجن» ويعود ويستطرد متحدثاً عن الطائف وكأنه تذكر شيئاً: «لا شيء في محاضر الطائف يمكن إضافته الى الإتفاق. هناك بعض الكلام «الطالع والنازل» مع السوري وضد السوري بلا فائدة. وفي النهاية توصلنا الى صياغة الإتفاق كما ورد، ومن صلبه قمنا بصياغة التعديلات الدستورية، التي أقرها مجلس الوزراء كما هي وصدق عليها مجلس النواب حرفيا».

الطائف متهم بأنه جرّد المسيحيين من حقوقهم… ما رأي إدمون رزق؟ يجيب «أنا مع تطبيق الطائف بحذافيره. لا يمكنك أن تأتي بأحسن مكونات وتسلمينها الى شيف فاشل». نقاطعه: لكن، ميشال عون لم يمكنه دستور الطائف أن يحكم؟ يجيب «مع إحترامي للأشخاص أعتقد أن وجود أشخاص مثل ميشال عون في السلطة هو عقوبة. متى التقيته آخر مرة؟ من زمان… من زمان. أثق أنه إذا أراد الشخص قص شعره فعليه أن يذهب الى حلاق لا الى شخص «مهروق» على باله عروس التين. مشكلتنا أن من يقودون البلاد مثل واحد يلعب الطاولة ويلقح الزهر وينتظر».

ما دمنا تطرقنا الى الزهر… كيف هو إدمون رزق بلعب طاولة الزهر؟ يجيب: «أحبها. ألعب محبوسة لكن أولادي يلعبون فرنجيه. المرحوم والدي كان يلعب هو أيضا محبوسة. وفي أوقات فراغي أقرأ كثيراً وأكتب قليلاً وأشاهد التلفاز وربنا باركني بعائلة جميلة. زوجتي مثقفة أحبها وأتفاهم معها وأولادنا بيجننوا. لدي خمسة صبيان وبنت واحدة. أمين وبهجت ونديم محامون، ناجي مهندس، فادي رجل اعمال وجومانا».

أنت صاحب الصوت الجهوري؟ يقاطعنا: «الصوت المدوي». نسأله: هل لديك حنين الى الوقوف وراء المنابر؟ يجيب: «أحن الى تأدية المزيد من الخدمة العامة لكن لا يمكن أن يأخذ الإنسان دوره ودور غيره. اعرف حدودي وحدود العمر. لذلك أنا اليوم مدمن صلاة».

“دق محبوسة” مع إبنه (تصوير رمزي الحاج)

لمن ترفع صلاتك؟ «أصلي الى رب العالمين وسيدة لبنان وما ريوسف شفيع العائلة ومارمارون ومارمطانيوس ومارشربل. أنا أممي من هذه الناحية. بالنسبة لي المسلم والدرزي واليهودي إخوة لي في الإنسانية. لدي كتاب «المشاركة في الإسلام» هو مقتطفات من خطب قلتها في النوادي الحسينية» يضيف «أكتب اليوم أقل من قبل وأقرأ أكثر وأحاول أن أستجمع خلاصة تجاربي حتى أنقلها الى الآخرين. وأعتبر أن الإنسان يجب ألّا يتزمت ويتقوقع. الحياة حلوة ولا تتجزأ وتنبض فينا جميعاً. لا للأنانية. أنا كل شخص أعتبره مثل أولادي واتمنى الخير للجميع وأفرح لنجاح الآخرين».

يسمع إستاذ إدمون صلوات وتراتيل يومياً. ويعشق سماع «»تينو روسي» في أغنيته Jardin Perdu. يغنيها لنا. نصفق له ونسأله عن الأغنيات العربية التي يتسلى بسماعها اليوم في نهاراته؟ يجيب: «فيروز أحبها وصباح ووديع الصافي أحب الطرب اللبناني الأصيل. والموشحات الاندلسية. أحب الصوت الجميل وأكثر أغنية أستمع إليها: حبني اليوم انساني بكرا احفظلك دوم بقلبي ذكرى». فيها حنين ووفاء وأمانة.

نشعر وكأنه لدى الأستاذ إدمون حنين الى الوفاء، فهل صادف أوفياء كثيرين في حياته؟ يجيب «لا أريد التشكيك بالآخرين، لكني أعتقد أن الوفاء مردوده رائع على صاحبه. والبديل عنه نكران الجميل والغرور. أكره الإنسان الذي ينسى اليد التي قدمت له نقطة مياه».

في السياسة اللبنانية، من هو الشخص الذي يعتبره الأكثر وفاء ومن هو الأكثر نكرانا؟

يجيب «لا اريد التسمية. لأن الجميع قد يُخطئون أو يصيبون. نسعى جميعاً وراء الكمال لكن لا أحد كامل إلا الله. لكن، الرجاء مطلب. الرجاء هو التطلع بأمل الى الأمام. لذلك، لا تأسفي في حياتك على فرصة ضاعت منك، لأن الأهم ما هو امامك لا ما أصبح وراءك».

طموح إدمون رزق اليوم على ما قال: «واحد، إرضاء ربي واعرف أن الأيام معدودة. الإنسان لن يعيش الى أبد الآبدين. أصبح عمري 89 عاماً. أما والدي فعاش 93 وجدي عاش 103 سنوات وجدتي عاشت 77… العمر مرّ سريعاً. وأعرف مقولة، لو دامت لغيرك لما آلت إليك».

اليوم يحتفل بعيد ميلاده ويقول: سيأتي الأولاد والأحفاد. لدي تسعة أحفاد. ست بنات وثلاثة صبيان، بينهم إدمون، يقبرني إدمون. أصبح مهندساً ويعمل في دبي، وريا في باريس، ويارا صحافية، وإلسا ومكرم ويمنى وأدريانا وآدم إبن فادي وماريا بنت نديم. بيجننوا جميعاً».

نريد أن نتركه يحتفل في عيد ميلاده لذا نختم بسؤاله بضعة أسئلة سريعة: ما هي خلاصة تجربته في حزب الكتائب؟ يجيب «على الرغم من كل شيء، أفتخر بها وأعتز بها. تعاونت مع الشيخ بيار باعتزاز، وأحلم حتى اللحظة بذلك الزمان. أنا – على راس السطح – كنت كتائبياً وأنا الوحيد ربما الكتائبي الآن. الكتائب هي الله الوطن العائلة وليست لعبة «كشاتبين»».

وماذا عن خلاصة تجربته في السياسة اللبنانية؟ يجيب: «كنت مخلصاً مع نفسي ومنطقياً. كنت اتصرف بوحي الواجب لا بوحي المصلحة الشخصية واقول لا شيء يضمن المصلحة الشخصية مثل اداء الواجب، لأن المصلحة ليست المكتسبات الآنية بل ما يبقى منها لاحقاً. ويستطرد: شاركت في ثلاث حكومات، وبقيتُ 24 سنة في مجلس النواب، ست دورات، وتوليت وزارات في ثلاث حكومات: حكومة امين الحافظ وحكومة سليم الحص وحكومة تقي الدين الصلح. وشاركت في اجتماع الطائف وصياغة الإتفاق وقمت منفرداً بصياغة تعديل الدستور. والتعديلات صدقت كما وضعتها أنا. وعشت مع رؤساء عديدين للجمهورية».

من يربح هو من يعطي

هل انتهت السياسة في لبنان اليوم؟

أعتقد أننا نعيش في زمن العتمة بكل أسف لأن «الكرسي» باتت الاولوية لدى السياسيين. باتوا ما يأخذون لا ما يعطون. بينما النجاحات الحقيقية تكمن في العطاء لا في الأخذ. في النتيجة الإنسان لا يملك إلا ما يعطيه. ما يعطيه يبقى له.

الصداقات التي عقدها إدمون رزق كثيرة ويقول «أمين الحافظ صديقي وصائب بك سلام والرئيس كميل شمعون وكمال جنبلاط وشفيق الوزان وتقي الدين الصلح. هناك عشرات آخرون. الآخرون بالنسبة لي كانوا وكأنني أنا في المرآة».

نطلب منه أن ينظر في المرآة ويقول لنفسه: أخطأت هنا فيجيب «خلينا بلا فضائح» ويعود ويستطرد «في مأتم بشير رشحت امين فاتصل بي فيكتور خوري قائد الجيش وقال لي: لماذا استعجلت؟ نحن نفكر بك. أجبته: ما يهمني هو الجمهورية لا الرئاسة. لم أفكر أي مرة ماذا سأربح بل ماذا يفترض أن أعطي.

يعدد إدمون رزق أسماء إخوته وأخواته: أنطوان وإلهام وروزيت وأنطوانيت. ويكرر اسم رينيه. هو وهي كما عصافير الحب ويقول: تعرفت عليها في الأكاديمية. انا أدرس الحقوق وهي تدرس الفلسفة. وجاءها في الإمتحان سؤال: سأل السائح الدليل الإيطالي كم كلف هذا القصر فاجابه: 400 سنة من الحضارة. فكتبت لها سطرين وأعطيتهما لها. طلعت الأولى. وبدأت الحكاية».

يوم كان عريساً

إدمون رزق يملك الكثير الكثير ليقوله. هو بئر أسرار. هو علّم وتعلّم واشتغل في الصحافة وفي الإذاعة وشكّل ورفاق له «حلقة الثريا» في الخمسينات وأسس لمحطات وكتب الطائف و… وأول سيارة اشتراها عام 1961 كانت سيمكا.

نترك إدمون رزق على أمل اللقاء قريباً. فيحملنا كل التحيات الى كل من سيقرأ. لكم منه تحية.

Exit mobile version