إيدك عن معجنّا
يقال إن العام 1975 انقطع الطحين عن لبنان، فبادر الإمام موسى الصدر الى شرائه من سوريا، وكان سعر الشوال آنذاك 15 ليرة، وهو مبلغ كبير بحسب قيمة عملة ذاك الوقت، وبدأ توزيع الكميات وخصوصاً في المناطق البعيدة. كان سائقو الشاحنات يطلبون ليرة إضافية مقابل كل نقلة الى المناطق البعيدة مثل القاع ومحيطها، فوافق الإمام، إذ كان همّه الوحيد وصول الطحين الى الناس، فكانت النتيجة أن اتهمه البعض بالسرقة، وانهالت عليه الشتائم، فقال يومذاك عبارته الشهيرة “يشتموني هني وشبعانين أحسن ما يشتموني هني وجوعانين”. وها نحن نشتم ونشتم ونشتم، وهم يسرقون ويسرقون ويسرقون، لكن يا إمام الأزمان، لسنا شبعانين انما جائعون أولاً وآخرا للدولة، للجمهورية، للقانون، للنظام، للعدالة، للبنان الرأس المرفوع، وها نحن نقف في الطوابير يحني رؤوسنا الهمّ والذعر والذل والعار، أو تصدق أن هذا لبنانك الكبير يا كبيراً من بلادنا؟
منتصف الثمانينات، يوم كان الاحتلال السوري منفلشاً في لبنان كافة، إلا في المناطق المحررة حيث كانت المقاومة اللبنانية تصد تمدد هذا الاحتلال الى تلك المناطق التي كانت تعيش ازدهاراً في القطاعات كافة. كان لشباب القوات اللبنانية آنذاك حاجزاً شهيراً، حاجز البربارة، هو آخر الحدود الفاصلة بين المناطق المحتلة والمناطق المحررة. كان الدخول من ذاك الحاجز بمثابة إنجاز كبير، إذ كان يخضع العابرون من الشمال الى تفتيش دقيق جداً، وخصوصاً بعدما تزايدت التفجيرات المتنقلة في المناطق الشرقية، والتي أدت الى مئات الشهداء والجرحى. كان حاجز البربارة كأنه نقطة العبور بين الحرية والعبودية، وكان بالنسبة للمخربين نقطة العبور في الجحيم وليس أقل. في تلك الأيام حاول الاحتلال السوري قطع الطحين عن المناطق الشرقية التي كانت بدأت تعاني الشح في المادة، فطلبت يومذاك وزارة الاقتصاد من قيادة القوات اللبنانية تشديد المراقبة عند حاجز البربارة إياه، كي لا يُهرب الطحين والخبز الى سوريا، وهذا ما حصل. صادر شباب القوات أطناناً من الخبز المهرّب من درب الشعب اللبناني، وبقيت مناطقنا على الرغم من الحصار والضيق، شبعانة، كرامتها مرفوعة، لم تذلّها لقمة العيش ولا حصار الاحتلال، ولا حمم الموت التي كانت تقذفنا بها “جارة” الموت والاحتلال.
بقينا شبعانين لأن ثمة من حرس معاجننا، بقينا في عرس الكرامة لأن ثمة من دافع واستشرس واستشهد عنا، بقينا حتى في قعر الملاجئ، رؤوسنا وهاماتنا مرفوعة، لان المقاومة حصدت لنا الشرف والخبز والطحين وحتى الكهرباء… وعلى فكرة بطل حاجز البربارة كان ذاك المناضل الشجاع المعتّق بالحب للأرض، أنطوان زهرا.
حاجز البربارة الذي حوّله التيار العوني وإعلامه المشوّه، الى شمّاعة الكذب والدجل والتلفيقات الخيالية بحق القوات اللبنانية والنائب أنطوان زهرا، كان حماية لمعاجننا من اليباس، ولأطفالنا من الجوع، ولو عادت تلك الأيام، لا سمح الله، لعدنا ودافعنا عن لقمة الجائع للرغيف وللكرامة أيضاً، ولكن لا نريد أبداً أن نعود الى هناك، نريد أن يعود لبنان الى الدولة، الى الجمهورية القوية العادلة التي تدافع عنا، وتقف بوجه الأرض كلها كي لا يبقى عندها مواطن جائع يقف في طوابير الذل، تحت شمس العار والانحناء، ينتظر ربطة خبز، يتناتشها من أياد آثمة، ومن غريب جعلنا في أرضنا غرباء، ومن محتل يدمن أيديولوجية الموت والجوع والتخلف والبؤس.
لن أقف عند طابور لأحصل على ربطة خبز، بينما الغرباء يحصلون على العشرات منها على مرأى من عيون أبناء بلدي. لن أقف عند طابور الخبز، وسآكل أي شيء وكل شيء ومن دون هالرغيف المغمّس بهذا القدر من الإذلال. كل ما أريده وأحلم به، هو أن تندلع ثورة الرغيف في لبنان. أريد أن أقتل قتلة لبنان ومجوّعيه، وهذا دفاع عن النفس مشروع ومقاومة للاحتلال… طيب مش أقتل كي لا اتهم بالتحريض على الجريمة، علماً أن الدفاع عن الجياع ليس جريمة بل أكرر هو مقاومة، أريد أن اقطع أي يد تمتد الى معاجننا، وأن أصرخ بوجهها كما اللبوة حين تزأر بوجه فريستها “إيدك عن معجننا يا محتل وإلا”، وان انقض عليه والتهم رغيف كرامة وطني، واصرخ واصرخ “شيلوا ايديكن الملوثة بعار العمالة من معاجن الشعب اللبناني”، على امل أن نصبح كلنا أسوداً ولبوات نستشرس دفاعاً عن رغيفنا ونلتهم ذاك الذل المدمّر القاتل يا الله.