مع إعلان النتائج شبه النهائية المتوقع خلال ساعات، يطوي لبنان صفحة الانتخابات، الأولى بعد ثلاثة زلازل غير مسبوقة بحجمها وتزامنها، والتي غيّرت إلى الأبد هذا البلد الصغير: انتفاضة 17 تشرين، الانهيار الكبير، وجريمة تفجير مرفأ بيروت.
قد يضاف إليها زلزال رابع هو فقدان الحزب الغالبية البرلمانية في مجلس النواب العتيد.
ثمة استدراك ضروري قبل الخوض في تحليل النتائج والمترتبات. من ينظر إلى تلك النتائج من زاوية الأرقام المطلقة والمجردة، عليه أن يتنبّه أولاً أن الفوز في صناديق الاقتراع في بلد مفلس، عاصمته نصف مدمرة، وأكثر من ثلثي سكانه باتوا بين ليلة وضحاها من الفقراء، هو ربح بطعم الخسارة، أقرب إلى كونه هدية مسمومة منه إلى ظفر مبين. من “ينجح” في هذه الانتخابات يترتب عليه جزء من مسؤولية انتشال البلد من اللجة الحمراء التي يتخبط فيها. وهذا ينطبق، بأشكال متفاوتة وبدرجات متفاوتة، على كل من سيتحصل على مقعد هنا أو هناك: من هم في السلطة اليوم ويشكلون عمودها الفقري أو نواتها الصلبة؛ من قفز من قمرة القيادة لحظة بدء جنوح المركب، أو قبله بساعات أو بأيام؛ وحتى الواصلين حديثاً الذين لم يجلسوا يوماً على طاولة المحاصصة. النيابة ستكون عبئاً ثقيلاً في هذا اللبنان المنحدر نحو الجحيم. كل من تنطّح للفوز بمقعد نيابي وناله في الاقتراع الأخير، كائناً من يكن، ومن أي موقع كان، عليه أن يتحمل مسؤولية هذا الفوز. بهذا المعنى، “كلّن يعني كلّن” سيكونون نوعاً ما مسؤولين.
أيام معدودة، وتستأنف محركات الأزمة والانهيار هديرها الصاخب. تعلو مجدداً صرخات الدولار والبنزين والمازوت والكهرباء والعتمة وذوبان الرواتب، والعبء الخيالي لأقساط المدارس والجامعات وفواتير المستشفيات، المدولرة كلها، والتي باتت كلها خارج متناول الشريحة الأكبر من اللبنانيين. أولئك اللبنانيون أنفسهم هم الذين أتموا انتخاباتهم أمس، والذين يجدر التوقف عند الرسائل التي، ربما، أرادوا توجيهها عبر صناديق الاقتراع.
الرسالة الأولى
صحيح أن الانتخابات ليست استفتاء، لكن الرسالة السياسية الأولى من دون منازع هي خسارة الحزب الأكثرية في مجلس النواب. تحت هذا العنوان، وجه الناخبون ضربة قاسية للنواة الصلبة للسلطة بقيادة الحزب، عبر خاصرته الرخوة، التيار الوطني الحر. نتائج الدوائر ذات الأغلبية السكانية الشيعية، التي أقفلت إقفالاً أمنياً محكماً معززاً بحملة ترهيب وتخوين غير مسبوقة، لا يمكن الاعتداد بها من حيث دقة تعبيرها عما يعتمل داخل صدور الناس هناك. وحدها دائرة الجنوب الثالثة استطاعت الإفلات من التعليب المسبق للنتائج، نتيجة تنوعها الطائفي وحنكة وأصالة من اداروا المعركة هناك. في المقابل، هذه الانتخابات سددت ضربة محكمة للحليف المسيحي الأول للحزب. الناخبون المسيحيون جردوا ذاك الشريك العضوي، ومن دون أي التباس، من مركز الصدارة الطائفية التي تمتع بها لسنوات، وذلك لصالح غريمه التاريخي، حزب القوات اللبنانية. تلك الصدارة المسيحية لطالما شكلت رافعة التيار العوني الأساسية للمطالبة برئاسة الجمهورية. والأهم من ذلك، هي شكلت الركيزة الميثاقية للحزب كي يطبق سيطرته على القرار السياسي للدولة اللبنانية، بعدما كانت عناصر قوته تستند فقط إلى ثنائية السلاح واحتكار التمثيل المذهبي للشيعة.
عودة التعددية إلى التمثيل السياسي للمسيحيين في لبنان، التي تمت تحت وقع الانهيار العام المتدحرج منذ ثلاث سنوات والتي لم يعد الحزب يملك وسائل وأسلحة كافية لوقفه، ستكون لها تأثير مباشر على كافة محطات الروزنامة السياسية اللبنانية للمرحلة المقبلة والحافلة بالمواعيد، من تأليف الحكومة إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية الخريف المقبل.
الرسالة الثانية
الرسالة المهمة الثانية أتت من الدوائر ذات الأغلبية السنّية، من بيروت وصيدا وطرابلس. اعتكاف الحريري عن المشاركة في الانتخابات لم يملأه حلفاء الحزب كما كان يخشى أو يتمنى البعض. تمثيل هؤلاء انحسر إلى حدود رمزية فيما التمثيل الجديد في تلك المناطق توزع بين أطراف من تيار الحريري السياسي العريض، ومعارضين له من القوى التقليدية المتجددة، خصوصاً في صيدا، والمجموعات المنبثقة من انتفاضة 17 تشرين والمنعتقة من العبء الطائفي والمذهبي، خصوصاً في بيروت. القاسم المشترك بينها جميعاً أنها كانت في الأصل أو باتت الآن على مسافة سياسية كبيرة من الحزب، تصل لدى بعضها إلى درجة الخصومة المباشرة.
الرسالة الثالثة
الرسالة الثالثة، النوعية، أتت من المجتمع اللبناني العابر للطوائف والانتماءات الأولية. صحيح أن ما يعرف بقوى الثورة والتغيير أخفقت في بلورة مشروع سياسي يرتقي إلى مستوى المرحلة وتطلعات اللبنانيين، وقد استفضنا في تشريح هذا الإخفاق ومسبباته الذاتية والموضوعية في مقالات سابقة. لكن من تجرؤا على المبادرة والمغامرة والمخاطرة من تلك القوى، وتنكبوا مسؤولية إطلاق المبادرات القاعدية في مناطقهم ودوائرهم الانتخابية، من تحلى بالشجاعة الجسدية والأدبية من هؤلاء، من ضحى من وقته وأمواله الخاصة وبعضهم لا يملك من متاع هذه الدنيا إلا القليل، هؤلاء لم يذهب عناءهم سدى. اللبنانيون التواقون إلى لبنان جديد منعتق من الطائفية والزبائنية والتبعية للمحاور الخارجية، داخل البلاد وخارجها، هبوا لانتخابهم بكثافة غير مسبوقة. لم تصل إلى البرلمان إلا حفنة منهم قد تصل إلى عشرة نواب، لكنهم سيشكلون حتماً علامة فارقة في المجلس الجديد، علها تعوض بقيمتها المعرفية والأخلاقية، ولو جزئياً، عن يباس الكتل الصماء الخاضعة لمشيئة الزعيم الأوحد التي ما زال يتشكل منها هذا البرلمان.