عندما يختارُ الإنسانُ بينَ موتٍ مُحتَمَلٍ وموتٍ مُحَتَّم فاعلَموا أنَّ المواطِنَ لَيْسَ بِخَير وأنَّ الوطنَ بِخَطر وهو على حافّةِ الهاوِيَة ومصيرُ الحياةِ فيهِ مُهَدَّدٌ فِعلاً ولَيْسَ قَوْلاً.
فورَ أنْ تحلَّ مصيبةٌ في وطني، تبدأُ الانفعالاتُ وتبدأُ التّبريراتُ ويبدأُ إلقاءُ اللَّوْمِ وتحديدُ المسؤوليّاتِ أو رَفْعُ المسؤوليّات. هنا بالذّات أقول نحنُ نحتاجُ إلى أفعالٍ لا إلى انفعالات. ما همُّنا على مَن نُلقي اللَّوم وعلى مَن تقعُ المسؤوليّةُ بعدَ أن نُحرَق ونُغرَق ونموت ونطمَر ونُدفَن! وهل تقاذُف المسؤوليّاتِ يُؤَدّي بالضّرورةِ إلى تَحديدِها أو إلى مُعالجةِ صلبِ المشكلة؟ وهل يسمحُ حُكْماً للعدالةِ بأَنْ تُنَفَّذَ؟!
من قَبلِ جريمةِ ٤ آب، وبعدَ هذهِ الجريمةِ ضدَّ الوطنِ والإنسانيّة، وإلى اليوم، ما زالَتِ المأساةُ مستمرّةً وطُرُقُ المعالَجة أو بالأحرى الهروبُ من المواجَهة والمعالجة ما زالت هي نفسها.
باللّهِ عليكم، كفى!
ألم تكتفوا من مشهَدِ الموتِ ورائحةِ الدّمّ وأصواتِ نداءاتِ الاستغاثة؟!
ألم تكتفوا من الوجوهِ الحزينة ومن دموعِ الأمّهاتِ ومِن رؤيةِ ثقلِ الهمِّ المُلقى على أكتافِ الآباء؟!
ألم تكتفوا من تشريدِ وتفرقةِ العائلاتِ ودفعِ الشابّاتِ والشّبانِ للهجرة؟!
أما لديكم عيونٌ لترَوا، وآذانٌ لتسمعوا، وقلوبٌ لتشعروا بأنينِ أولئك الذين ينزفون دماً ودموعاً منذ ٤ آب، وأولئك الذين يرمون بأنفسِهم في البحرِ هرباً من جبروتِ وظلمِ حُكمِكُم؟!
ما بالُكُم تُعاينونَ يأسَ النّاسِ، وتتفرّجون عليهم ينطفئون ويموتون، ثمّ بعدَ موتِهم تتحرّكون؟!
أيَجِبُ أن يموتَ الإنسانُ لتتحرّكوا؟! أما على مَن يكونُ في موقعِ المسؤوليّة أَنْ يتحرّكَ سَلَفاً كي يمنعَ موتَ النّاسِ لا بَلْ كي يوفّرَ لهم كلَّ سُبُلِ العيش؟!
السّؤالُ الذي نطرحُهُ اليوم وهو مُلِحٌّ جدّاً، ما الذي يدفعُ بالإنسانِ ليختارَ بين الموتِ المُحتَمل والموتِ المُحَتَّم؟!
ما الذي يدفعُ بهِ لِيُخاطِرَ بحياتِه؟! تأمّلوا في أنَّ مَن يخاطرُ بحياتِه يفعلُ ذلك علَّهُ يَربَحُ حياةً جديدةً، ومَن يختارُ بينَ الموتِ المُمكنِ ههنا والموتِ المحتّمِ بزوارق الرّحيل إنّما يفعلُ ذلكَ علَّهُ يَجِدُ فُرَصاً واحتمالاتٍ جديدةً لحياةٍ أفضل.
هؤلاء الذين يواجِهونَ الموتَ كلَّ يوم هُم أبناءُ الحياةِ الطّامِحون بكلِّ بساطةٍ لعيشٍ كريمٍ بكرامةٍ واستقرارٍ وسلام. ليسوا هواةَ موتٍ ولا هواةَ عدمِ احترامِ القوانين لا سيّما قانون الحفاظِ على أرواحِهم وسلامَتِهم! لكنّ العيشَ ضاقَ بهم لدرجةِ أنّهم قبِلوا بالمجازفة وخاطروا بأثمَن ما لديهم من أجلِ فرصةِ حياةٍ مسلوبةٍ في دولتِهم. إنّهم يحلمون بأبسط حقوقِهم وباحترامِ أبسطِ حقوقِ أولادهم. أمِّنوا لهم حقوقَهم فلا يخاطروا. عمَّ يفتّشون؟! ماذا يبغون؟!
جُلَّ ما يريدونَه: الرّغيف، لُقمةُ العَيْش، نقطةُ الماءِ للشّرب، لحومٌ غيرُ فاسدة، موادّ غذائيّة من دون موادّ مسرطنة، قدرةٌ شرائيّة لتأمينِها، أدويةٌ لجميعِ الأمراض، علاجاتٌ متاحة من دونَ أن يضطرَّ الإنسانُ لِبَيعِ أحدِ أعضائه ليعالجَ الآخر، مستشفياتٌ قادرةٌ على استقبالِ المرضى، أنظمةُ تأمينٍ صحّيٍّ للجميع، الماءُ السّاخنُ للاستحمام، السّقفُ الآمِن، المياهُ غير الملوّثة، التّدفئةُ أيّام الصّقيع، أماكن مخصّصة لمرافقة ذوي الاحتياجات الخاصّة ولاحتضان مَن تقدّم بهم العمر، مدرسةٌ للأولاد، جامعةٌ للشّبّان والشّابّات، الهواءُ النّظيف، البيئةُ النّظيفة، روائح طيّبة لا روائح نفايات أو ناجمة عن مجارير تفتقرُ للصيانة، وسائل سليمةٌ لِرَميِ النّفاياتِ وفرزِها ومعالجتها، نورُ الكهرباء، نظافةُ الأماكن والأحياء، شوارع معَ أرصفةٍ جميلة، طرقاتٌ مُعَبَّدَة لا توقِعُهم في حُفَر ولا تكسرُ سيّاراتِهم إن كانوا ما زالوا يملكون تَرَفَ اقتناءِ سيّارة، وسائل نَقلٍ عامّة تُسهِّلُ عليهم التّنقّلَ من دونَ دفعِ ثرواتٍ لشراء المحروقات، أمْنٌ وأمان ألخ…
يريدون بيئةً سليمةً وثرواتٍ بيئيّةً وبشريّةً تُحتَرَم، واقتصاداً مزدهراً، وحاضراً حاضِناً للحياة ومستقبلاً ممكناً في هذا البلد.
هذا ببساطة ما يُريدونَهُ وما نُريدُهُ جميعاً، لا طمَعاً ولا جشَعاً ولا تَطلُّباً! إنّه ببساطة أبسَطُ حقوقِ الإنسان، أبسطُ حقوقِ أيِّ مواطِن، وأبسطُ واجباتِ أيّةِ سُلطَة ٍوأولى مهمّاتِها؛ وإلّا فما المَغزى مِن وجودِ أيّةِ سُلطَة، وأيّةِ إدارةٍ إنْ لمْ يَكُن لمتابعةِ شؤونِ النّاسِ وتوفيرِ أبسطِ حقوقِهم؟!
مؤلمٌ وموجعٌ ويحرقُ القلبَ أنْ نشهدَ موتاً تلوَ موت، وغرقاً تلوَ غرق، واغتيالاً تلوَ اغتيال، وجريمةً تلو جريمة، وانفجاراً تلو انفجار، وتهجيراً تلو تهجير، وإفقاراً تلوَ إفقار، وإذلالاً تلو إذلال، وغير ذلك مِنَ الفظائع. وبالرغمَ من كلِّ ذلكَ، تستمرُّ إدارةُ الأمورِ كأنَّ الزّمنَ عاديٌّ والحياةَ محترمة، لائقة ومزدهرة، وكأنَّ المواطنَ يعيشُ في نعيم.
باللّهِ عليكم! كفى جوراً، كفى قسوةً، كفى لامبالاة، كفى تيئيساً، كفى هدراً للوقتِ والعمرِ، وكفى هدراً لدماءِ شعبٍ يريدُ الحياة ولا يعشقُ إلّا الحياة.
كفى ظلماً، دعونا نعيش!
كلّ يومٍ نرفعُ الصّوت، وبعدَ كلِّ مأساةٍ نعلّي الصّوتَ أكثر وما من سامِعٍ أو مُجيب!
المواطنُ اليومَ عالقٌ بينَ حقِّهِ بالبقاء على أرضِ وطنِهِ وبينَ واجبِهِ بالحفاظِ على حياتِهِ وعلى أبسطِ المقوّماتِ لاستمراريّةِ هذه الحياة. وبين الحقِّ والواجبِ يَضيقُ الخناقُ، ويَجِدُ المواطنُ نفسَهُ مُخَيَّراً بينَ موتٍ مُحتَمَل يتحدّاهُ كلَّ يوم وموتٍ حَتْمِيٍّ يُلاقيهِ على طريقِ الهُروب.
فإلى متى؟! إلى متى يدفعُ المواطِنُ حياتَهُ ثَمَنَ حقِّهِ بِالحَياة؟!