“من يريد أن يدفع لبنان إلى الفوضى أو الانهيار عليه أن يتوقع منا ما لم يخطر في بال أو وهم”…
موقفٌ فيه من الخوف بقدر ما فيه من التحذير، لكنّه متوقع لما يجب أن يتوقعه العالم من “الحزب”. توقيته جاء مباشرة في اليوم التالي للتسريبة – الاشاعة التي وردت على قناة “الحدث” السعودية، والتي تقول إن الخزانة الأميركية على بعد ساعات من فرض عقوبات على الحاكم المركزي رياض سلامة لوجود ارتباط بينه وبين “الحزب” وبينه وبين ممولين للحزب. وفي التفسير المنطقي، هو أنّ المصرف المركزي اللبناني هو إحدى الواجهات التي يختبئ الحزب خلفها لحماية تمويله.
التسريبة التي أتت بعد نحو أسبوعين على فرض عقوبات على رجل الأعمال الشيعي حسن المقلّد، الذي تربطه علاقات بـ”الحزب”، والذي يتردّد في عدّة أروقة سياسية أنّه ليس بعيداً عن الأميركيين، لم يتم نفيُها رسمياً، بل مصادر أميركية نفت ما أوردته مصادرُ أميركية أخرى.
الرسالة وصلت
فهم زعيمُ “الحزب” حسن نصرالله الرسالة، ومن ورائه إيران، التي لم نألف دخولها مكسورة في أيّ مفاوضات، فتكون المعادلة غالباً “التصعيد مقابل التصعيد”.
الإشاعة حملت رسالة، بمعايير مزدوجة، أولاً، على المنظومة الحاكمة اللبنانية أن تعي أنّ وقتها ينفد للقيام بما هو مطلوبٌ منها، وعليها قراءة ما وراء الحدث الذي تم في باريس، وأنّ كلام اللقاء الخماسي لا يحتمل مناورات، بل التزام واضح أو الخروج من اللعبة، علماً في هذا السياق أنّ الدور الذي تتقنه المملكة العربية السعودية اليوم ليس هو ذاته ما اعتاده اللبنانيون بالأمس. فالشخصيات تبدّلت، ومعها الأسلوب والنهج. لذا أمام اللبنانيين إمّا الشروع في طريق بناء الدولة على أسس ومفاهيم الشرعيتين العربية والدولية، أو أنّ الضغوط ستشتد أكثر، وهذه المرّة، حتى رئة لبنان المالية لن تكون مستثناة. بما يعنيه ذلك، من عزلة دولية وعربية لم يشهدها لبنان في تاريخه.
أمّا الرسالة الثانية، فهي الأساس وموجهة بالمباشر لـ”الحزب”، الذي يواجه عدواً أميركياً لدوداً، وطرفاً سعودياً غير تقليدياً، وخصماً فرنسياً مستجداً، ومفاده بأنّ السلاح الذي أسقط أعتى أنظمة العالم قوةً وديكتاتورية في التاريخ الحديث (الاتحاد السوفياتي)، لا يستطيع “الحزب” ومن ورائه إيران أن يكونا بمنأى عنه. وهذا يعني، أن مسيرة تحجيم “الحزب”، ذراعُ إيران العسكرية وعقلُها التبشيري في لبنان والمنطقة والعالم، قد بدأت، وأنّ دول المنطقة والعالم لن توافق على أن تبقى رهينة أقلية فارسية تبيح عدم استقرار في الشرق كلّه وصولاً إلى ساحات أوروبا والغرب كلّه.
في مقلب إيران – “الحزب”، رغم السقوف العالية، لا تصعيداً متوقعاً حتى الساعة ولا في المستقبل بحسب ما يُجمع الخبراء العسكريون. بمعنى أن ايران المعروفة ببراغماتيتها، و”الحزب” بعقله الاستراتيجي، تُطرح علامات استفهام بشأن حجم التمادي الذي يمكن الوصول به إلى حدّ تفجير المنطقة كما ردّد السيّد نصرالله، من دون استبعاد هذا الخيار في الوقت نفسه، خصوصاً أن “الحزب” يؤمن بأن الاميركيين هم فريق هشّ خارج أميركا، ومن شأن استهدافهم أن يجعلهم تحت ضغط الانسحاب أو أقلّ الايمان تقليص دورهم في البلدان الموجودين فيها، على غرار ما حصل في العام 1983، واستهداف المارينز والكتيبة الفرنسية.
وبالتالي، فإنّ القائلين باعتماد الحزب خيار التصعيد، فاستناداً إلى أن “الحزب” يرى في استهدافه مالياً ومعيشياً وتجويع بيئته، استهدافاً لمشروعه الاستراتيجي في لبنان والمنطقة، علماً أنّ صلب ركائز هذا المشروع ودعائمه في لبنان هي بيئته، أيّ الطائفة الشيعية، التي يمتلك حتى الساعة سيادة القرار فيها وعنها. هذا، إضافة إلى إمكانية تهديد قوته سلاحاً وتنظيماً، والمس بالمعادلة التي عمل على تثبيتها منذ ثمانينيات القرن الماضي، معادلة قوة لبنان بمقاومته ودورها في مواجهة إسرائيل، إلى مشروع الحزب الاستراتيجي في جمع الأمة الإسلامية.
دلالات الخطاب
من هنا، ينطوي كلام نصرالله على خوف ورفض في آن من المسّ بوضعية حزبه لبنانياً وخارجياً. ويمكن قراءة بعض جوانب الكلام:
أولا، كلامه دلالة وتأكيد إضافي على أن مشروع الحزب أولوية على مصلحة اللبنانيين ووجودهم.
ثانياً، استهداف الحزب ومشروعه، يعني إخلال بموازين القوى التي عمل عليها لسنوات، ليس فقط عسكرياً بل سياسياً و”ميثاقياً”، إلى المفاهيم التي قاتل لفرضها وتذويبها في الثقافة والفكر اللبناني، كـ”سلطة المجتمع الدولي”، أو ما كان يسمّيه التدخل الدولي في لبنان أميركياً واسرائيلياً، والأهم العلاقات داخل المجتمع اللبناني، فتحدث عن صوغ للعلاقات “بين اللبنانيين” وليس “مع اللبنانيين”، مع ما يعنيه ذلك من فرض أسس جديدة بعيدة عن “رعاية أو وصاية خارجية وعن الارتهان إلى المصالح الخارجية”. في حين، هو يقرّ بأنه حزبٌ إيراني بكادر بشري لبناني. هذا، إلى نيّته تحويل الجمهورية اللبنانية إلى جمهورية إسلامية.
ثالثاً، ينبّه نصرالله بأنّ هدم الهيكل سيكون على رؤوس الجميع وليس على رأس “الحزب” وحده، لأنّه لن يكون بمقدوره تحمّل خسارة كمّ ومسارٍ من النضال التاريخي في سبيل إرساء مشروع معيّن للبنان، في لحظة تاريخية محددة وتحت أيّ ظرف معين، وما حققه من مواقع متقدّمة في لبنان وبلدان المنطقة.
رابعاً، في كلامه إيمانٌ بأنّ السلاح خطٌ أحمر ومرتبط بالمشروع الإيراني، وإيران وحدها تقرّر توقيت تسليمه اذا وُجدت الفرضية.
خامساً، التصويب على إسرائيل لأمرين: أولاً، لدغدغة مشاعر بيئته من جهة، ولمكانتها الحسّاسة في الأجندة الأميركية من جهة أخرى. وثانياً، لقطع الطريق على الداخل اللبناني بأيّ مطالبة بنزع السلاح، وهو لطالما صنّف كل مطالبة بهذا الموضوع في إطار استرضاء إسرائيل وطروحاتها بشأن المقاومة وسلاحها.
تنبؤ الغد
بعيداً عن إطلالات القوة والتنكر للواقع، يرى المحلّلون أنّ “الحزب” “مزنوق”. وعلى عكس ما كان معلوماً، هو غير قادر اليوم على ضبط ساحته والعلاقات مع وبين حلفائه، وحتى حليفه المسيحي جبران باسيل يمارس ضغطه انطلاقاً من تيقنه لحجم الضغوط والحرج الموجود فيه “الحزب” داخلياً وعربياً، وغربياً، من دون أن يعني ذلك أنّ باسيل مستعد للخروج عن عباءة السيد نصرالله.
كما أنّ الحزب على ما يدور في الكواليس، هو عاجز من جهة عن إيصال مرشحه سليمان فرنجية للرئاسة، والاحتفاظ بالموقع الأول في لبنان، ومن جهة أخرى، لا يمانع الحصول على مباركة المملكة العربية السعودية لخياره الرئاسي، لا بل يسعى إلى ذلك، لتحصين التفاهم عليه، ولقدرة المملكة في ترتيب انتقال سهل للسلطة، وتوجيه القرار السُنّي ولو في غياب القيادة السنيّة.
من هنا، رغم كل الضغوط والكلام العالي النبرة، يمارس “الحزب” البراغماتية السياسية مع خصومه حتى، هو يعترف ويقرّ بدور المملكة، ويراهن على إيجابيات معينة عبر الحوار السعودي – الإيراني، أو أي مسعى خليجي وراء خطوط العدو. وهو أيضاً قدّم تسهيلات لإتمام الترسيم البحري، وهو تحوّل منذ 2006 شرطة حرس الحدود لإسرائيل. ورغم ذلك، لا يمكن لأحد أن يتكهن بخطواته المستقبلية.
هذا الأمر يسري بدوره على ما يمكن التنبؤ به للأيام والأشهر المقبلة. إذ أنّ المؤشرات تشي بهزّات أمنية مرتقبة غير معروفة النتائج وقد تكون مفتوحة على كل الاحتمالات، منها ما يقود إلى رئيس ومنها ما يقود ربما إلى تركيبة جديدة للنظام السياسي اللبناني. لكن السؤال، يبقى، كيف سيَحكم الرئيس الجديد بوجود السلاح؟ وأيّ سلطة ستكون؟ أو كيف سيكون شكل النظام الجديد إذا “لم يُسحق “الحزب” أو يستسلم ويسلّم سلاحه”؟. (كلام لجون بولتون لوفد الجامعة العربية عام 2006).
أسئلة تحمل في طيّاتها الكثير من المحاذير، والترقب، والخوف والخطر، لأنّ المواجهة هذه المرّة استثنائية. فالحرب بأوجهها المختلفة هي مع فريق داخلي يرى في مطلب نزع السلاح “دونه خوض اللُجج وبذل المهج”… من هنا، لابدّ من انتظار الغد، وهذا الغد لناظره قريب، على قول السيّد.