لم تُفلح الهدايا التي قدّمها العماد ميشال عون، رئيس الحكومة العسكرية “المبتورة” باستقالة جميع أعضائها المسلمين، على حساب الرئيس أمين الجميل و”القوات اللبنانية”، في إقناع الطرف الآخر الذي يقوده النظام السوري، لا بالإعتراف به في منصبه الذي كان ينافسه الرئيس سليم الحص على شرعيته، ولا بانتخابه رئيسًا للجمهورية، ففتح مدفعيته الثقيلة على المناطق التي يهيمن عليها الجيش السوري، من دون أن يأخذ برأي أيّ مرجعية مسيحية، فكانت “حرب التحرير” التي انتهت، بعد جولات من القتل والتدمير والتهجير، في ظل صراع إقليمي قسّم المنطقة الى أكثر من محور، إلى “اتفاق الطائف”.
رفض عون اتفاق الطائف، بحجّة أنّه يحتاج إلى تعديل “بسيط جدًّا”، قبل الإفصاح عن معاداته التّامة له، إثر انهيار آماله بالعبور الى رئاسة الجمهورية، بفعل انتخاب المجلس النيابي الذي كان قد أقدم على حلّه، النائب رينيه معوّض لشغل هذا المنصب الدستوري المرموق.
وكما تعاطى مع الطائف كذلك تعاطى عون مع الرئيس معوّض، في تقاطع “موضوعي” مع “الحزب” الذي سرعان ما انضمّ إليه النظام السوري، عندما عمل رئيس الجمهورية الجديد، برفضه طلبات سوريّة عدّة، على “لبننة” تطبيق اتفاق الطائف.
وسط “تقاطع المصالح” هذا، جرى اغتيال الرئيس رينيه معوّض الذي اغتيل معه “البعد اللبناني” لاتفاق الطائف، فبسط “البُعد السوري” نفسه ، واختير النائب الياس الهراوي، الموثوق به سوريًا، ليكون ثاني رئيس للجمهورية الثانية.
وبدأت المناطق التي يسيطر عليها العماد ميشال عون، في ظلّ مواقف “القوات اللبنانية” و”حزب الكتائب”، وبمباركة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، تتململ من رفض “الجنرال” الحلول السياسية ونتائج الإستحقاقات الدستورية، فكانت “حرب الإلغاء” التي أقحمت “القوات اللبنانية”، من جهة وألوية الجيش التابعة للعماد عون، من جهة أخرى في مواجهة قاتلة وتدميرية وتهجيرية.
وعلى الرغم من المعطيات المحلية والإقليمية والدولية التي كانت تميل، بوضوح، لمصلحة اتّفاق الطائف، رفض عون أيّ تسوية من شأنها الحدّ من الخسائر، الأمر الذي أتاح للنظام السوري، في 13 تشرين الأوّل/ اكتوبر 1990، أن يحقّق أغلى أحلامه: إحتلال كلّ لبنان باستثناء المناطق التي كانت تحتلّها إسرائيل.
نجا العماد ميشال عون من عملية 13 تشرين الأول/أكتوبر، بسبب لجوئه، عند انطلاقتها، الى السفارة الفرنسية في محلّة مار تقلا في الحازمية، ولكنّ لبنان سقط في أكثر من حفرة من دون أن يتمكّن، بعد، على الرغم من مرور أكثر من إثنتين وثلاثين سنة، من تجاوز تداعياتها ونتائجها ومعطياتها.
وفي خلاصة سريعة لهذه الإنعكاسات الناجمة عن السلوكيات “المتطرّفة” للعماد عون، يُمكن التوقّف عند النقاط الآتية:
أوّلًا، خسر “السياديون” في لبنان كلّ نقاط قوّتهم، واضطرّوا إلى أن يُنظّموا مقاومة سياسية مكلفة للغاية في مواجهة القواعد التي فرضها “السلام السوري”.
ثانيًا، حوّل النظام السوري لبنان، بشكل رسمي، إلى “جبهة بديلة”، بحيث استعمله، مستغلًّا السلطات التي شكّلها، في تبادل الرسائل مع إسرائيل.
ثالثًا، تمّ إضعاف الرعاة الإقليميين والدوليين لاتفاق الطائف، بحيث أصبحت الكلمة العليا، في كلّ شاردة وواردة، للنظام السوري.
رابعًا، جرى إنهاء كلّ المقاومات العسكرية في البلد في مقابل توفير نوع من الإحتكار العنفي لمصلحة “الحزب” الذي كان نقطة تقاطع سوري-إيراني في المنطقة، فقدّمت له كلّ مقوّمات القوّة، بحيث يمكن لهذا المحور أن يستعين به، عند الحاجة، لإخضاع الداخل اللبناني، بالإرهاب حينًا وبالترهيب أحيانًا، إن هو تمرّد على الهيمنة السوريّة الشاملة.
وهكذا انتهت المرحلة الأولى من الحياة السياسية للعماد ميشال عون إلى نتائج معاكسة تمامًا للشعارات التي وعد بها اللبنانيين.
هو أتى إلى قصر بعبدا، باسم رفض تسليم رئاسة الجمهورية لشخصية يختارها الداخل اللبناني بالتفاهم مع النظام السوري والمملكة العربية السعودية والولايات المتّحدة الأميركية، ولكنّه غادره، وقد أصبحت كلّ السلطة، بكلّ وجوهها ومقوّماتها، خاضعة كلّيًا للنظام السوري.
هو تصرّف باسم “حلّ الميليشيات”، ولكنّه أتاح لأخطر أنواع الميليشيات السيطرة على البلاد، من خلال السماح ل”الحزب” ومن يدورون في فلكه باحتكار السلاح، وفرض إرادتهم على البلاد والعباد.
هو كبّد لبنان واللبنانيين أثمانًا فادحة، بهدف تحرير الأجزاء المحتلّة من لبنان، لينتهي الى تسليم المناطق التي كانت محرّرة الى الاحتلال السوري.
هو رفض اتفاق الطائف، باسم مصلحة المسيحيين، فإذا به يُنهي آخر مكامن قوّة المسيحيين، من خلال مواجهته المذهلة للتسويات التي جرى عرضها عليه.
في العام 2016، تجاهلت القوى التي عادت ووافقت على انتخاب النائب ميشال عون، هذه الخلاصات المهمّة من مسيرته، على الرغم من أنّ ما يمكن أن يحصل في المستقبل تتوافر جذوره دائمًا، في التجارب المحفورة في الماضي.
يومها، كان الأمير سعود الفيصل الذي تولّى تذكير القوى اللبنانية بهذه الخلاصات عن العماد عون، قد غادر هذه الحياة، ولم يعد قادرًا على التصدّي للميل اللبناني الدائم إلى “المقامرة”.
وحده “الحزب” لم ينس هذه الحقائق الخاصة بنهج العماد ميشال عون، فأصرّ على وجوب انتخابه، بأيّ كلفة، في فترة كان قد قرّر فيها الإنقضاض، بشكل تام، على القرار اللبناني، في ظلّ ذهابه الى الحرب في سوريا واليمن والمواجهة في البحرين والعراق، بصفته واحدة من أقوى أذرع “الحرس الثوري الإيراني” في منطقة نفوذ “فيلق القدس”.
(يتبع)