رفع الدعاوى القضائية ضد المصارف في ميزان الإفلاس وحقوق المودعين… قراءة قانونية لبول مرقص
لم ينفِ أحد أن “الودائع هي ملك خاص تصونها أحكام الدستور والمعاهدات والمواثيق الدولية، كما توّضحها قرارات المجلس الدستوري، ولا يملك أحد حقّ المسّ بها”. وذهب البعض إلى القول: “إن قانون ماغنيتسكي بالمرصاد لا سيما وأن تفعيله مجاز من خلال ادّعاء المتضرر أمام المحاكم الأميركية”.
صحيح أن المصارف قد تكبّدت الخسائر بحكم توظيفات الودائع وائتمانها لمصرف لبنان، لكنّها من جهة أُخرى تُقلّص ديونها لجهة المودعين بفضل عمليّة “الهيركات” غير المُصرّح عنها وفق التعاميم المتتالية. هذا لأنه في النتيجة: يخسر المودِع مع كلّ 100 دولار ينقذها من حسابه.
لم يأتِ طلب صندوق النقد الدولي بوجوب تقييم 14 مصرفاً من عبث وتم تأخيره اليوم، سيما وأن هناك حوالي 9 مليارات دولار سحبت من المصارف بعد 17 تشرين الأول 2019 ما يدعم الشكوك حول أداء القطاع المصرفي.
رئيس مؤسسة جوستيسيا الحقوقية المحامي الدكتور بول مرقص يقدم القراءة الآتية: “مع تفاقم النزاعات بين المصارف والمودعين لاسيّما النزاعات القضائية، وعدم تمكّن المودعين من سحب ودائعهم بالعملة الأجنبية وشحّ الأسواق بعملة الدولار الأميركي، عمد الكثير من المودعين الذين يملكون حسابات لدى المصارف اللبنانية إلى إقامة دعاوى في الخارج على هذه المصارف في سبيل تحصيل ودائعهم منها، وذلك بناءً على قواعد قانونية عدة استندت إليها المحاكم في الخارج لإصدار قراراتها.
ومن أبرز هذه الدعاوى، الدعوى التي أقامها المودع مانوكيان على المصرفين “عودة” و”سوسيتيه جنرال” أمام المحكمة العليا البريطانية (Queen’s Bench Division)، حيث ألزم هذين المصرفين بدفع مبلغ بقيمة /4.6/ ملايين دولار، لصالح المودع مانوكيان من حسابه المصرفي، بعدما قام المصرفان بحجز أمواله لديهما والامتناع عن تحويلها.
اللافت في هذه القضية تحديداً، أنها الأولى من نوعها صادرة عن محاكم غير لبنانية تصادق على عدم اعتبار الشيك المصرفي الصادرعن المصارف اللبنانية سنداً للإيفاء، وذلك استناداً إلى القرار الصادر عن رئيس دائرة التنفيذ في بيروت القاضية مريانا عناني بتاريخ 30/11/2021، والذي اعتبر أن الشيك المصرفي لم يعد وسيلة إيفاء مبرئة للذمّة في ظلّ الظروف الحالية في لبنان.
وفي قضية الأولى من نوعها صادرة عن المحاكم الأميركية، قضت محكمة الاستئناف الأميركية في قضية رعد ضد بنك عوده ش.م.ل، بتاريخ 15 كانون الأول 2022 بإمكانية محاكمة المصارف التجارية اللبنانية خارج لبنان، حيث أبطلت محكمة الاستئناف قرار محكمة المقاطعة الجنوبية لنيويورك التي قضت بعدم اختصاصها للنظر في قضية انتهاك المصرف للعقد الموقع مع المودع عندما رفض تحويل أمواله إلى الخارج، بحجّة أن محاكم بيروت لها اختصاص حصري للنظر في القضايا المرفوعة ضد البنوك اللبنانية. فوجدت محكمة الاستئناف أن بند اختيار المحكمة ذات الولاية القضائية في الاتفاقية العامة بين المودعين والمصرف، لا يحتوي على لغة تنصّ على أن محاكم بيروت لها ولاية قضائية حصرية على النزاعات الناشئة عن اتفاقهم .بالتالي، فإن هذا القرار مهّد الطريق لمزيد من القضايا التي قد يقيمها المودعون في الخارج الذين يسعون للحصول على أموالهم المحتجزة في المصارف اللبنانية حيث ربما لا يزال لديهم طريق لذلك أمام المحاكم الأميركية.
وفي قرار آخر صادر لصالح المودعين اللبنانيين في الخارج، أكّد القرار الصادر عن محكمة الاستئناف في باريس- فرنسا، في 23 تشرين الثاني 2022، أن أموال المودع المحتجزة بشكل غير قانوني من قبل المصرف في لبنان يجب أن تُدفع في فرنسا .
إنّ هذه القرارات وغيرها الصادرة عن المحاكم الأجنبية لصالح المودعين، أدّت إلى استياء المصارف اللبنانية وطالبت بصدور قوانين تحميها من هذا النوع من الدعاوى، كما وطالبت بإقرار قانون الكابيتال كونترول في سبيل تشريع ما يقومون به من تقييد على التحويلات المصرفية”.
هل اختلف الأمر مع بتّ القضاء اللبناني في الدعاوى التي تنوّعت بين عرض وإيداع شيكات؟
يشير مرقص إلى أنه “على الصعيد اللبناني، صدر قرار في 1/2/2023 عن محكمة التمييز في بيروت نقضت فيه قرار محكمة الاستئناف التي أوقفت أمر قاضي التنفيذ الذي طلب فيه وضع أختام على أصول المصرف المدعى عليه “فرنسبنك”، وطلبت إعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل صدور قرار الاستئناف، وإعادة الملف إلى المحكمة البدائية للبت في الموضوع، وهذا ترك غضباً كبيراً لدى جمعية المصارف التي أعلنت الإضراب العام، وكون القرار جاء لصالح المودعين الذين يطالبون بوديعتهم نقدًا فضلًا عن صدوره عن محكمة التمييز، ما يمكن أن يتمّ الاستناد إليه في دعاوى أخرى تقام ضد المصارف اللبنانية”.
ويلفت إلى “لجوء المصارف إلى تسديد مستحقاتها تجاه المودعين عبر عمليات عرض وإيداع بموجب شيكات مصرفية تحمل قيمة الوديعة وأودعتها لدى الكاتب بالعدل، متمسكةً بمبدأ أنه لا يجوز للزبون أن يرفض وسيلة إيفاء التجأ إليها المصرف لإبراء ذمّته طالما أنه اعتمد وسيلة إيفاء قانونية ومبرّئة للذمّة.
وقد ردّت محكمة الاستئناف في بيروت في قرارها الصادر في31/3/2022 على هذه الحجج مشيرةً إلى أنه: “وحيث إذا كان استعمال الشيك يعتبر وسيلة مقبولة لإيفاء الديون النقدية على أن يكون الإيفاء معلقاً على شرط تحصيل قيمة الشيك، فإن تمّسك المصرف باعتماد هذه الوسيلة، دون غيرها، للتعامل مع طلبات المستأنف عليها يشكلّ تعرضاً غير مبرّر لحق هذه الأخيرة بالاستفادة من خدمة التحويل المصرفي الذي أمسى، بفعل تطوّر النشاط المصرفي وتوّسع مجالاته، وسيلة أساسية لتحريك الأموال ونقلها في ظلّ النظام الاقتصادي اللبناني الحرّ القائم على حريّة التداول والمبادلة…”.
يعتبر مرقص أن “أهمية هذا القرار الصادر عن محكمة استئناف بيروت لمصلحة المودع أيضاً، يكمن في أن المصرف ملزم من جهة إلى تأدية الخدمات المصرفية التي يطلبها العميل، ومن جهة أخرى أنه لا يحق له إلزام المودع بقبول وسيلة إيفاء بدلاً من أخرى طلبها كطلبه بالتحويل المصرفي وإن كانت متوافقة مع النصوص القانونية كالشيك”.
التمييز بين المودعين حقيقة أم تهويل؟
هناك تهويل متصاعد اليوم مع ربح المودعين الدعاوى على المصارف بدقّ ناقوس الخطر من أن ما يسّدد بموجب الدعوى سيقلّص قدرة المصارف على الإيفاء بالتزاماتها تجاه باقي المودعين بعد تجفيف السيولة فيها. إلى أي مدى ينطبق هذا الواقع؟ وهل على المودع التزام الصمت والترقّب دون أي تحرّك؟
يجيب مرقص: “يرعى قانون الموجبات والعقود الأحكام المتعلّقة بالوديعة حيث تنصّ المادة /690/ منه على أن: “الإيداع عقد بمقتضاه يستلم الوديع من المودع شيئاً منقولاً ويلتزم حفظه وردّه”. كما أن المادة /696/ من القانون عينه تنصّ على أنه: “يجب على الوديع أن يسهر على صيانة الوديعة كما يسهر على صيانة أشيائه الخاصة…”.
وفي ما يتعلّق بمسؤولية الوديع، فقد نصّت المادة /700/ من قانون الموجبات والعقود على أنه: “إذا استعمل الوديع الوديعة أو تصرّف فيها بلا إذن من المودع، كان مسؤولاً عن هلاكها أو تعيّبها ولو كان السبب فيهما حادث خارجي… “.
وقبل كل ذلك، الفقرة “و” من مقدمة الدستور اللبناني تنصّ على أن: “النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة”، كما أن المادة /7/ منه تنصّ على أن: “كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم…”.
كل هذه المواد القانونية التي ترعى أحكام الوديعة، مباشرة أو غير مباشرة، تشير إلى مسؤولية المصرف في الحفاظ على الوديعة، كما ومسؤوليته بإعادتها إلى المودع.
أي أن للمودع حق تكفله المواد القانونية في الحصول على وديعته ولا تفريق بين مودع كبير وصغير، وقد صدرت كما بيّنا أعلاه أحكام قضائية عدة لصالح المودعين في الخارج وفي لبنان.
إلا أنه رغم مسؤولية المصرف في الحفاظ على الوديعة وإعادتها، فمع غياب الدولة عن معالجة المشكلات الاقتصادية والتصدّي لها، كما ووضع خطط إصلاحيّة، فإن المصرف الذي يملك سيولة في ظلّ وجود أزمة، إذا تركت للمحظيين والنافذين من كبار المودعين الذين صدرت لصالحهم أحكام تلزم المصارف بردّ مبالغ كبيرة من سيولة المصرف، فإن من شأن ذلك أن ينعكس سلباً على صغار المودعين واقعياً بسبب أزمة استنزاف ما تبقّى من السيولة التي تمرّ بها المصارف منذ أكثر من 3 سنوات، دون أفق واضح أو خطى ثابتة مما لا قدرة لأي مصرف عليه، الأمر الذي يؤدي فعلياً إلى التمييز بين مودع كبير وصغير، رغم أن للمودعين حقاً مكرّساً بالاستحصال على وديعتهم ولا يمكن للمصارف استعمال أزمة السيولة كحجّة وذريعة للتملّص من التزاماتها تجاههم”.
ومن جهةٍ أخرى في ما يتعلّق بتقييم المصارف وإفلاسها بسبب الدعاوى القضائية يؤكد مرقص: “إن نقص السيولة لدى المصرف لأي سببٍ كان يؤثر حتماً على تقييمها، إلا أن المصارف منذ عام 1967 لا تخضع لقانون الإفلاس، إنما لنظام خاص يرعى توقّفها عن الدفع وهو القانون رقم 2/67، الصادر في 16/1/1967 وتعديلاته. الهدف من هذا القانون هو مساعدة المصرف المتوقف عن الدفع على معاودة نشاطه لتجنّب تصفيته، كما ويرعى هذا القانون #حقوق المودعين، وفي حال أفلس مصرف معيّن، تُعيّن لجنة لتصفية المصرف، والمُصفّي هو الذي يستوفي ديون المصرف تجاه الغير، وخصوصًا المقترضين، ويؤمّن دفع ودائع العملاء، ما يعني أنّه حتى في أسوأ السيناريوات فإن التشريع اللبناني عبر القانون رقم 2/67 قد نظّم حماية لأموال المودعين إلى حدود قد تصبح أكبر من الحدود التي أوصلنا اليها التردي الحالي”.
في ضوء هذه المعطيات القانونية، من المفترض انتصار العدالة للحق والإقلاع عن التحدي والتهرّب من المسؤوليات.