ليس من المبالغة القول أن منصة صيرفة تلفظ أنفاسها الأخيرة، تزامناً مع التطورات الحاصلة على الصعيد المالي والاقتصادي في البلاد، وجنون سعر الدولار في السوق السوداء من دون أن تتمكن من ضبطه وهي المهمة الأساسية لإنشائها. بل على النقيض تماماً نجد القيّمين عليها يسعون الى “اللحاق” بسعر دولار السوق السوداء بدل أن يحصل العكس، إذ سجل السعر أمس 79 ألف ليرة بعد أن كان 70 ألفاً قبل ايام قليلة.
من عوارض دخول المنصة في الموت السريري أيضاً تأثرها السلبي باضراب المصارف الذي يوقف استفادة القطاع الخاص منها، علماً ان هذه الاستفادة تعثرت بشكل كبير منذ بداية العام الحالي، عندما علقت أموال المودعين لأكثر من شهر قبل الحصول عليها بالدولار لكن بالقطارة. بمعنى آخر تثبت المنصة أنها تفشل بشكل متواتر في تحقيق اي هدف كان مرجواً منها يوم تأسيسها في أيار 2021، حيث حدد السعر عليها بـ12 ألف ليرة للدولار الواحد، ما يعني اخفاقها في لجم صعود الدولار وتقريب السوق الموازية (السوداء) من سعرها الذي يحدده المصرف المركزي.
لم تنجح المنصة ايضاً في لجم معدلات التضخم. ففي آخر أرقام إدارة الإحصاء المركزي بلغ التضخم السنوي، حسب دراسة مؤشر أسعار الاستهلاك،171,21 بالمئة، في حين أنّ معدلات التضخم السنوي عن السنوات السابقة كانت كالآتي: العام 2021: 154,8 بالمئة، العام 2020: 84,9 بالمئة، العام 2019: 2,90 بالمئة.
ويسجل الخبراء أنه في غياب قانون لضبط السحوبات والتحويلات (كابيتال كونترول)، ساهمت المنصة بخروج الدولارات من لبنان. فمعظم ما يضخ عليها يذهب للتجار والمستوردين ويجد طريقه الى الخارج وتحديداً للاستيراد وتحويلات ارباح. ومن الادلة على اخفاقها أيضاً أن مصرف لبنان يشتري الدولارات من صيارفة بسعر السوق، مع عمولة للشركات المتعاقدة معه لتأمين العملة الصعبة، ثم يضعها على المنصة بأسعار أقل بنسب تراوح بين 15 و30 بالمئة، حسب تطور الأسعار في السوق السوداء، ووصلت الفروقات في بعض الأحيان أعلى من 30 بالمئة، وهذا الفارق مع العمولات يسجله مصرف لبنان في ميزانيته خسارة.
ويلفت الخبراء أيضاً الى أن مصرف لبنان كان يضطر احياناً، للتصرف بدولارات مما بقي لديه من احتياطي (هو عملياً ما تبقى من اموال المودعين)، ويعتبر ذلك خسارة ايضاً اذا لم يستطع تعويض ما صرفه من الاحتياطي. وهذه الخسارة تضاف الى سابقتها (الفرق بين السعرين) لتفاقم حجم الفجوة الهائلة في حسابات البنك المركزي وعلى الدولة معالجتها عاجلاً ام آجلاً.
ومع شبه انعدام الشفافية على منصة صيرفة، تبين ان هناك تربحاً غير مشروع يحصل على قدم وساق، فهناك من يصلون الى الافادة السريعة قبل غيرهم، مقابل آخرين ينتظرون بالساعات ولعدة أيام وربما لشهر.
ما يمكن تسجيله في خانة اخفاقات المنصة، أن مصرف لبنان سمح للمودعين بالافادة منها، في محاولة منه ومن المصارف للتعويض عليهم قليلاً مما خسروه، لكن الافادة الاكبر (بحسب العارفين) هي للمصارف التي تحصد عمولات بمئات ملايين الدولارات، وهذا لا يشمل ربح مصرفيين جنوا ثروات من المنصة بأسهل طرق التحايل.
في الحسابات السياسية لعبت المنصة دوراً في افادة موظفي القطاع العام منها، وتعويضهم القليل مما فقدوه من قدرة شرائية لرواتبهم بالليرة، وهذا ما يصر عليه السياسيون لأن الموظفين هم ناخبون ومحازبون ومن جمهور احزاب السلطة.
جريمة مالية
في التقييم الاقتصادي والمالي للمنصة، يشرح الخبير الاقتصادي الدكتور ايلي يشوعي لـ”نداء الوطن” أن صيرفة ليست اجراء تقنياً بقدر ما هي مصدر لتحقيق الاموال غير الشرعية وغير المبررة، وهي جريمة مالية ترتكب بحق اللبنانيين، وخصوصاً بحق تذويب جزء من ودائعهم”، مشدداً على أن “المنتفع من صيرفة منذ انشائها هم المتمولون والتجار والمستوردون والنافذون، وهؤلاء كانوا يدفعون حاملي الدولارات الفريش الى بيعها بالسوق الحقيقية، كلما يتدخل مصرف لبنان على صيرفة لتخفيض سعر الدولار، فكان هؤلاء (اصحاب الدولارات الفريش) يخافون من انخفاضه أكثر. وبالتالي هي عملية سطو على صغار حاملي الدولار”.
يرى يشوعي أن “هذه المنصة مرتبطة بوجود الحاكم على رأس حاكمية المصرف المركزي، ومصيرها معلق بمصيره كونها من اختراعه وابتكاره، وهو اجراء غير موجود في قانون النقد والتسليف، وان يكون هناك عدة اسعار صرف للدولار الا في قاموس رياض سلامة”.
هناك تضليل مقصود
من جهته يعتبر رئيس قسم الابحاث في بنك بيبلوس نسيب غبريل، لـ”نداء الوطن” أن السؤال الذي يجب أن يسأل هو ليس اذا فشلت صيرفة ام لا وما هو جدواها، بل ما هي الاجراءات التي تقوم بها المؤسسات الدستورية والعامة للتخفيف من وطأة التضخم والغلاء وانخفاض سعر صرف الليرة، والجواب هو لا شيء، بل على العكس تماماً، هناك شغور وشلل وفراغ في سدة الرئاسة الاولى ولامبالاة من قبل الطبقة السياسية”.
يضيف: “السؤال الاساسي هو ما هي خطة المؤسسات الاخرى والمسؤولين الى جانب مصرف لبنان لانقاذ الوضع وبدء العملية الاصلاحية واستعادة الثقة. منصة صيرفة ليست عصا سحرية، ومصرف لبنان ليس وحده المسؤول عن الحل، وما نشهده هو هروب من تحمل المسؤولية من قبل الافرقاء المعنيين بالازمة”.
ويختم: “بقاء منصة صيرفة أو عدمه، هو موضوع تقني يعالج من ضمن خطة اصلاحية شاملة، وتتضمن رؤية لمستقبل الاقتصاد اللبناني. اليوم هذه الرؤية غير موجودة وهناك تضليل مقصود وممنهج، للتركيز على الجانب التقني لصيرفة، ولكن برأيي الموضوع الاهم هو وجود ارادة سياسية لوضع رؤية للمستقبل الاقتصادي اللبناني”.