ضعف الموارنة واستباحة عقارات تنورين والعاقورة وبشرّي

تستمرّ النزاعات العقارية بين البلدات اللبنانية بالازدياد، ولم تستطع الدولة حلّها. ويُشكّل غياب الحسم أحد أهم أسباب تطوّر الصراعات وجنوحها نحو الطائفية. وما إشكال بشرّي إلا جرس إنذار لما قد يحصل في المستقبل. إستطاعت فاعليات بشرّي والضنية وطرابلس، من موالين ومعارضين، ومن يدعمون الدولة و»الدويلة»، ومن رجال دين وسياسيين، إضافةً إلى تحرّك قائد الجيش العماد جوزاف عون السريع واستلام الجيش زمام المبادرة، ضبط الوضع بالحدّ الأدنى وعدم السماح بتفلّت الأمور بعد حادثة القرنة السوداء التي سقط نتيجتها الضحيتان هيثم ومالك طوق. وفي انتظار تحقّق العدالة يبقى الجمر تحت الرماد والخشية من تكرار مآسٍ مماثلة. لم يكن أحد يتوقّع تدهور الوضع في القرنة السوداء إلى الصدام الدموي، رغم أنّ الدولة كانت قادرة على حسم الخلاف بسبب امتلاكها الوثائق الكافية التي تؤكّد وجود القرنة السوداء ضمن جبل لبنان القديم.

وأبعد من إشكال بشرّي، هناك من يطرح مسألة تآكل الوجود المسيحي. فبعد التراجع الديموغرافي الواضح بسبب الحروب والهجرة والإضطهاد أثناء فترة الإحتلال السوري، أتى ملفّ التراجع الجغرافي بسبب البيوعات الكبرى في الأراضي المسيحية. وإذا كانت هذه البيوعات تركّزت في مناطق الأطراف وجبل لبنان الإستراتيجية، كان هناك من يردّد من أساقفة وسياسيين أنّ الجبة المارونية التاريخية الممتدّة من العاقورة مروراً بتنورين وصولاً إلى بشرّي وإهدن محمية من تلك البيوعات، وأهلها متمسّكون بأرضهم. لكنّ الخطر في تلك المنطقة يأتي من مكان آخر، والجدير ذكره أنه عندما تقدّم المحامي بول حرب باسم أهالي تنورين بطعن أمام مجلس شورى الدولة لوقف تطبيق قرار فصل شاتين عن بلدتها الأمّ أي تنورين، كانت هناك رغبة في إبقاء تنورين بحجمها الجغرافي التاريخي، لكن الهدف كان منع تفتيت البلدات المارونية الكبرى وإدخالها في صراعات مناطقية وعائلية. وإذا كان ملفّ البلديات ذا طابع إداري وتنموي، إلا أنّ المشاكل العقارية في الجبة المارونية التاريخية تتزايد، وليس صحيحاً أنها بعيدة عن خطر التفتيت. وهنا يمكن بمراجعة بسيطة التذكير بكيفية حصول عملية قضم الجبة التاريخية وتقليص حدودها، والتي انطلقت من بلدة العاقورة في جرود جبيل وتمدّدت إلى تنورين وبشرّي.

وصار معلوماً سيطرة أهل اليمونة والبلدات البعلبكية المجاورة على أكثر من 20 مليون متر مربع من أرض جرد العاقورة، وهذه السيطرة تمّت بقوة الأمر الواقع. وبعد محاولات حثيثة لحلّ الإشكال سلمياً، أتى التدخل السياسي من فريق معروف ليفجّر غضب أهالي العاقورة وجبيل والبطريرك مار بشارة بطرس الراعي.

وينصّ قانون جبل لبنان القديم الساري المفعول على أنّ مشاعات البلدات الواقعة ضمن الجبل القديم هي ملك البلدية وعموم الأهالي، فأتى قرار وزير المال عام 2015 علي حسن خليل بمسح المشاعات باسم الدولة اللبنانية ليفجّر إشكالاً كبيراً. والخطورة في هذا القرار هو حقّ الدولة في تأجير أراضي العاقورة الممسوحة للدولة لمن تشاء وسلخها من البلدية والأهالي. لكن رفض البلدية والأهالي والجوار وبكركي هذا الأمر أجبر وزارة المال على التراجع.

وما حدث في العاقورة ينطبق على بلدة تنورين التي تصل حدودها إلى مناطق بعلبك، وهناك نحو 10 ملايين متر مربّع من أراضي جرد تنورين يسيطر عليها أهالي اليمونة بقوة الأمر الواقع، علماً أنّ الحدود مرسّمة وهناك نقاط حدودية واضحة لا يمكن التشكيك فيها. لكن تبدّل موازين القوى واستقواء الفريق الآخر بالسلاح والسلطة مكّناه من وضع اليد على أملاك بلدتي تنورين والعاقورة. ولم تسلم بلدة بشرّي من الإشكالات العقارية، وصراع القرنة السوداء يتفجّر كل سنة، خصوصاً في موسم شحّ المياه. وكان الخلاف بين أهالي بشرّي وقسم من أهالي بقاعصفرين في الضنية «مضبوطاً»، لكنّ التطورات الأخيرة دفعت به إلى العلن ليدخل مرحلة الصراع الدموي.

يملك أهالي العاقورة وتنورين وبشرّي المستندات اللازمة التي تؤكّد ملكيتهم للأرض، وهذا لا يدخل ضمن ملفّ أراضٍ متنازع عليها أو صراع على نقاط حدودية، بل يتمثّل بوضع اليد على العقارات بالقوّة، وحسب أكثر من مرجعية مسيحية سياسية كانت أو روحية، فالتجرّؤ على استباحة العقارات التابعة لبلدات مسيحية سببه غياب الدولة وتراجع هيبة الموارنة في بلداتهم. فمن كان سابقاً يريد إثارة إشكالات مماثلة، كان يعدّ للعشرة أو الألف، لكن الزمن تغيّر، وبات القوي يستبيح الضعيف.

تظهر الأرقام وجود أكثر من 30 مليون متر مربع من الأراضي في بلدات بشرّي وتنورين والعاقورة مستباحة، وما إشكال العاقورة السابق والمستمرّ إلا دليل واضح على تراجع الحضور الماروني، فالبلدية بقيادة الدكتور منصور وهبي ومن أكمل المسيرة بعده قاتلوا لتثبيت حقّهم بإجماع جبيلي ومسيحي، وحاول عهد الرئيس السابق ميشال عون الدخول على خطّ المساندة ولو بخجل، وبقي الجرح مفتوحاً، وبالتالي هذا يعطي صورة عن تراجع الديموغرافيا والجغرافيا والدور المسيحي، ما يعني تراجع الهيبة وبداية تفكّك القلاع المارونية، وأتى إشكال القرنة السوداء ليثبت هذه النظرية.

Exit mobile version