يَخسر #لبنان موسمياً ثروة اقتصادية ثمينة جرّاء عدم استثمار مياه المتساقطات التي تهطل بغزارة في فصل الشتاء، والتي تسلك مسارها من خلال الأنهر إلى البحر، فتُصبح غير نافعة، جراء غياب المشاريع التنموية، فيما يمكن للإجراءات البيئية أن ضمان حُسن الاستفادة من المياه وعدم هدرها، كبناء #السدود والآبار الجوفية.
اعتمدت وزارة الطاقة على خطّة بناء السدود في العقد الأخير، إلّا أن هذه السياسة لم تجدِ نفعاً، ولم تؤد السدود وظيفتها، أولاً لغياب الدراسات العلمية والأثر البيئي في عدة أماكن، وثانياً، لغياب الشفافية في هذه المشاريع.
تخزين المياه
يضمّ لبنان نحو 40 نهراً أساسيّاً، 17 منها دائمة الجريان بفعل العوامل الطبيعية المحيطة بها. وتشكل #المياه الجوفية نحو 50 في المئة من إمدادات المياه في لبنان.
وفيما كان لبنان يُعتبر ثاني أغنى بلد بالمياه، إلاّ أن تضاعف عدد السكان وزيادة الأنشطة البشريّة بدأت تضغط على الموارد المائيّة، ممّا أدّى إلى ظهور مشكلات متعددة كتقنين المياه، وتدهور جودة المورد…، ومن المتوقع أن تصبح المخاطر أكثر حدة في السنوات المقبلة إذا استمرت السياسة المائية على حالها، في ظل تنامي الطلب، والانخفاض النّسبيّ في كمّية المياه المتاحة.
من هنا، ضرورة تنظيم فوضى الاستخدام المائي وعشوائيته؛ لذلك، يُعتبر عامل تساقط الثلوج مهماً في تخزين المياه. فكيف كان تقييم موسم الثلوج لهذه السنة؟
يلفت الباحث الجيولوجي سمير زعاطيطي في حديث خاصّ لـ”النّهار” إلى أنّ “جبالنا المرتفعة تشكّل مخازن حقيقيّة للمياه الجوفيّة، فالثلج يذوب من الأسفل، ولا تتبخّر منه كميّة كبيرة”. ويضيف: “الموسم هذه السنة ضعيف مقارنة بالعام الماضي، إذ كانت كمية المتساقطات مرتفعة، فيما لم نشهد ارتفاعاً لهذه الكمية العام الحالي”.
ويوضح بأن “المخازن الجوفيّة الآن تمتلئ بعد ذوبان الثلوج، والمياه السطحية موجودة، لكن سياستنا المائيّة خاطئة وتجري بعكس الطبيعة، وثلاثة أرباع الثروة المائيّة اللبنانية جوفيّة، لكننا نُمنع من استخدامها، فهي إمّا تذهب إلى البحر أو إلى جيراننا. وبالتالي، إضافة إلى التلوث الذي يضرب المياه السطحية، لا إدارة رشيدة للثروة المائية في بلد كان يُصنف في المرتبة الثانية على مستوى وفرة المياه في الشرق الأوسط.
وأضاف: “جنوباً، المياه السطحيّة تذهب إلى فلسطين، ويمنع المساس بها كما يُمنع علينا أن نفتح آباراً في الجليل الأعلى اللبناني، أو أن نستخدم مياه نهر الوزاني، وهذا ملفّ مقفل”، مؤكّداً أنّ “لبنان وطن تضييع الفرص والثروات”.
أين تذهب مياه الثلوج التي تذوب؟
يرى مدير برنامج التغيّر المناخي والبيئة في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت نديم فرج الله أنّ “مشكلة المياه التي يعاني منها لبنان هي أولاً ضعف القدرة لدينا على تخزين المياه لفترة طويلة، ممّا يحرمنا في الكثير من الأوقات من أن نتمتّع بالمياه على مدار السنة، لذلك نشكو من تقنين في المياه”.
وأضاف: “شبكة المياه في العديد من المناطق قديمة ومهترئة، والنصف الآخر منها حجمه غير كاف. تطوَّر العمران، وتزايدت أعداد النّاس، وبقيت الإمدادات الملئيّة كما هي”، مضيفاً: “المياه التي تصلنا في الشتاء لا نستطيع تخزينها إلّا ببناء السّدود، والسدّ كلمة مرعبة بالنسبة للكثير من الناس، لكنه حلّ مقبول لا أفضل الحلول”.
وتابع: “هناك جملة مهمّة جداً تنطبق على الوضع الذي نعاني منه في لبنان اليوم وهي :”if you don’t measure it you cannot manage it”. ونحن ليس لدينا عدّادات لكميّة المياه التي نسحبها أو نوزّعها، وبالتالي لا نستطيع إدارة النّقص أو الهدر”.
وأكّد أنّ “موسم الثلوج هذا العام كان ضعيفاً جداً، والمنخفضات الجويّة التي وصلت في شباط ساعدتنا على تحسين شيء من الموسم. لكن موجة الحرّ التي لحقتها أضرّت بها بشكل رهيب”.
وأشار فرج الله إلى أنّ “المشكلة الرئيسية التي نعانيها هي أننا لا نقيس كميّة وكثافة الثلوج لنتمكّن من قياس المياه الجوفيّة، المعدّل السنوي، أو حتى نصيب لبنان من الثلوج سنوياً”، موضحاً بأنّه “كلّما كانت الكثافة أعلى يعلو معدّل المياه الجوفيّة، وكلّما كان الذوبان أسرع لا تستطيع الأرض أن تشربها كلها”.
وتابع: “خسرنا الكثير من المياه، السبب الذي جعل النّاس يتوجّهون إلى صناعة برك جبليّة لتجميع مياه الثلوج التي لا تتحوّل إلى مياه جوفيّة، لكن هذه البرك ليست كبيرة، ولا تكفي للعدد الذي نحتاجه، وبالتالي إذا أردنا الحصول على حلول بعيدة الأمد علينا أوّلاً أنّ نطوّر شبكات المياه لتصبح عملية التوزيع والاستخدام أسرع، كذلك علينا تطوير قدرة التخزين لدينا التي من شأنها أن تساعدنا في شرب وتخزين المياه الجوفيّة مدّة أطول، وبالتالي علينا وضع سياسة مائيّة ناجحة تضمن لنا الاستفادة التامّة من ثرواتنا الطبيعيّة”.
أزمة مائيّة في لبنان؟
يلفت مؤسّس ورئيس جمعية الأرض- لبنان بول أبي راشد إلى أن “لا دراسات موثقة تثبت أنّ لبنان يعاني من مشكلة نقص مياه أو أيّ دراسة تثبت الكميّة السنوية من المياه في لبنان. لذلك علينا بداية إجراء دراسات تحتسب الثروة المائية بالتفاصيل كخطوة أولى، بالإضافة إلى تنظيم قطاع المياه الجوفيّة في وزارة الطاقة والمياه التي تسمح من خلال تراخيص الآبار باحتكار جزء كبير من مياه البلدة الواحدة لمشروع أو شركة”.
ويضيف: “إذا أصلحنا خطّ المياه من جعيتا إلى ضبيّة، وأوقفنا التسرّب بين ضبيّة وبيروت، وجعيتا، نضمن تزويد مدينة بيروت صيفاً وشتاءً”، مؤكّداً أنّنا “أمام فوضى في السياسات المائية المتّبعة، فأرض لبنان الكاريستيّة يمكنها امتصاص مياه المتساقطات إلى الطبقات الجوفيّة، لكن سوء الإدارة يسيطر علينا”.
ويشير إلى أنّ “الحلول واضحة كترشيد الاستهلاك، تجميع مياه الأمطار، وزيادة المساحات الخضراء”، سائلاً: “بدلاً من إنشاء السّدود، لماذا لا نستثمر أموالنا في زراعة الأشجار في المناطق الجبليّة الثلجيّة لمساعدة الأرض على التخزين وامتصاص المياه بكميّة أكبر ومدّة أطول؟”.
وأوضح بأنّ “البرك الجبليّة مهمّة في الأراضي غير الكاريستيّة لتجميع المياه أي في الأراضي التي لا يُمكنها امتصاص مياه المتساقطات”، لافتاً إلى أنّ المسؤولين يسيئون اختيار أراضي السدود، لأنّ اختياراتهم تُبنى على الموقع والمنظر الطبيعي لأغراض عقاريّة تجاريّة في غياب تامّ للأهداف البيئيّة والسياسات المائية”.
وتابع: “من جهة، نحن نصدّر مياه معدنيّة إلى الدّول العربية والأجنبيّة بينما نشرب مياه الصرف الصحي المكرّرة ومياه انجراف التربة، فكيف من الممكن أن يصدّر بلد مياهاً لا وجود لها عنده”، مؤكّداً أنّ “المياه في لبنان موجودة، ولا نعاني نقصاً، لكننا نعاني من لا عدالة في التوزيع، ومن إسراف في الاستهلاك غير المنظّم، لأنّ كلّ حزب يسيطر على منطقة معيّنة، ويفرض نفوذه بها، ويفتح شركة مياه خاصّة به، ويحتكر حقوق المواطنين”.
ختاماً، يظهر الواقع عجزاً في الميزان المائي صيفاً شتاءً نتيجة الهدر السنوي والسياسات المائيّة التي لم يمرّ التطوّر بجانبها. فنحن في لبنان نحاكي التطوّر والتكنولوجيا، لكننا في عام 2023 لا مياه وكهرباء في منازلنا. ولا بدّ لنا اليوم من التفكير في حلول جذريّة، تبدأ بتطوير واستبدال شبكات المياه المهترئة، زيادة القدرة على التخزين، واستخدام طرق متطورة وحديثة لترشيد استخدام المياه والحدّ من الهدر.
كذلك علينا كخطوة أولى احتساب وإدارة كيفية توزيع خطوط المياه على المناطق وفق عدد السكّان والقدرة الاستهلاكية لنتمكّن من قياس كميّة المياه الموزّعة، المستخدمة والمهدورة. من هنا تبدأ السياسة المائية الناجحة التي من شأنها أن تحقق اكتفاء مائياً من دون هدر أو حرمان.