في “الدولة المخطوفة:” العصابات تهدّد الضبّاط بالقتل
في الأسابيع الماضية نشطت أعمال الخطف بشكل لافت، وقادت ملاحقة المطلوبين إلى خروجهم عن طورهم والتهديد العلني بالقتل.
منذ تعيين العقيد محمد الأمين رئيساً لفرع مخابرات البقاع رُصِد أداءٌ جذريّ ومختلفٌ عن الحقبة الماضية. فالضابط، حتى بشهادة بعض أخصامه، صارم ومترّفع عن كلّ أنواع الإغراءات المادّية ويمتلك مناعة صلبة بوجه الفساد في بقعة تجمع بين حدَّيْ الفقر وملايين الدولارات بسبب سيطرة ميليشيات الخطف والسرقة وتبييض الأموال.
والأهمّ من ذلك أنّه يمتلك “قلباً قويّاً” في تنفيذ المداهمات وملاحقة الخارجين على القانون وفرض عنصر المفاجأة، فأزعج هؤلاء بشكل كبير بعدما شكّل مصدر قلق لهم ولأعمالهم غير المشروعة.
وأتى بيان الجيش أمس حول تنفيذ عملية خاصة في منطقة إيعات-بعلبك، وتحرير المخطوف رولّي صادق من الجنسية المصرية بعد عشرة أيام من اختطافه، وتحرير المخطوف أكرم جمعة، ليكشف جزءاً من رواية كاملة حصل عليها موقع “أساس”.
بدأ مسلسل الخطف مع اختطاف جوزف فريجي (مدير شركة كبيرة في السعودية، وهو من مواليد عام 1968) في 15 نيسان الحالي على طريق المطار.
وفق المعلومات فإنّ مدبّرَيْ الخطف هما شقيقان من آل مُرضى من منطقة الهرمل، ومن المؤكّد أنّ أحدهما انطلق برفقة آخرين من منطقة الزعيترية-الفنار مستقلّين سيارة من نوع هيونداي لونها أسود وقامت والدتهما باستئجارها من شخص من آل علّو من بعلبك-الهرمل.
بعد الاختطاف مباشرة توجّهت السيارة إلى منطقة الجمهور، ومن هناك تولّت سيارة أخرى نقل المخطوف إلى منطقة البقاع، ومنها إلى الأراضي السورية، كما تفيد المعلومات.
تولّت مخابرات الجيش وشعبة المعلومات العمل بداية على هذا الملفّ. تمكّنت “الشعبة” من الوصول إلى السيارة الخاطفة وتوقيف المرأة التي استأجرتها، وإثر ذلك أرسلت تهديدات لشعبة المعلومات بسبب التوقيف. وقامت مخابرات الجيش بتوقيف سائق سيارة فريجي، وهو سوري الجنسية، لأنّه وحده كان يعلم بوصوله إلى لبنان، وتمكّنت من توقيف السيارة التي قامت بنقل المخطوف إلى البقاع.
في المقابل، توصّلت الشعبة إلى كشف هويّة سوريَّيْن لديهما علاقة مع السائق، لكنّهما تمكّنا من الفرار إلى سوريا، وتسلّمت التفاوض مع الخاطفين بالتنسيق مع مخابرات الجيش اللبناني، وتمّ تسليم كلّ “الداتا” إليها.
تطويق وضغط
وفيما لا يزال فريجي مخطوفاً، تمّ خطف رولّي صادق جبرائيل في 16 نيسان في منطقة الطيبة ببعلبك أثناء تصوير أحد المسلسلات (من إنتاج شركة الصبّاح).
في مسرح الجريمة عثرت “شعبة المعلومات” على هاتف عائد لشخص من آل زعيتر متورّط سابقاً في خطف الطفل ريّان كنعان الذي ضغطت “شعبة المعلومات” على الخاطفين في حينه لتسليمه، واستطاعت تحريره من أيدي خاطفيه عبر تركه في إحدى الحدائق العامّة في بلدة مكسة القريبة من شتورا. وتبيّن أنّ هذا الشخص متورّط مع أشخاص آخرين من آل زعيتر في خطف رولّي صادق.
ووفق معلومات “أساس” طلبت الجهة الخاطفة بدايةً مليون دولار. لكن بعد استدراج “شعبة المعلومات” لطالبي الفدية، تمّ تسليم أحد المُرسَلين من قبل الجِهة الخاطفة في منطقة حلبا بعكار مبلغاً متواضعاً من المال.
كان يفترض إثر ذلك أن تُفرِج الجهة الخاطفة عن رولّي صادق، لكنّها تراجعت بعد تسلّم المبلغ المالي الزهيد.
أوقفت “شعبة المعلومات” أول من أمس في منطقة أكروم العكارية الشخص الذي تسلّم المبلغ بعد رصد تحرّكاته عقب تسلّمه المال. وقد كشف أمام محقّقي “المعلومات” هويّة بعض المتورّطين بالخطف، ومنهم من آل زعيتر.
في المقابل، تبيّن أنّه منذ خطف رولّي صادق قامت مخابرات البقاع في الأيام الماضية بمداهمة منازل الخاطفين من آل زعيتر، وكان التركيز أكبر على منازل المطلوبين من آل جعفر ومحمد حسين صعب الملقّب بـ”محمد روما”، ومكث عناصر وآليات الجيش حول منازلهم، وأوقفوا أيضاً عدداً من أفراد عائلاتهم، الأمر الذي أثار جنونهم بعدما تحوّلت منازلهم إلى ثكنة عسكرية.
إثر ذلك، استسلم الخاطفون وحرّروا رولّي صادق وتركوه على مفرق الكيّال- إيعات من دون دفع أيّ فدية. وتسلّمته “شعبة المعلومات” لأنّ التحقيق الأوّلي مفتوح لديها.
المخطوف أكرم جمعة
أمّا بالنسبة إلى المخطوف أكرم جمعة، وهو صاحب أموال طائلة، وكذلك شقيقه أيمن، وهما من بلدة لالا البقاعية، فقد تمّ خطفه من قبل السوريَّيْن طراد الحسين وحسام الحسين بعد ظهر يوم الإثنين، وأُفرج عنه فجر الثلاثاء. وكانت شعبة المعلومات أوقفت السوريّين سابقاً بعد خطفهما اللبناني أحمد عيسى واكد من كامد اللوز، وقبعا سنة ونصف سنة في السجن، وبعدما خرجا نشطا مجدّداً على خط الخطف.
هناك روايتان أمنيّتان حول تحرير أكرم جمعة:
الأولى تقول إنّ السوريَّيْن سلّماه إلى الأخوين حسن عباس وحسين عباس جعفر. وبعد تدخّل محمد يزبك لدى حسن عباس جعفر وفشل الأخير في محاولة إقناع أخيه حسين بتسليم جمعة، قام حسن جعفر مع مجموعة من المسلّحين بالتوجّه إلى دار الواسعة و”تحرير” أكرم جمعة وتسليمه إلى مخابرات الجيش اللبناني في منطقة بوداي فجر أمس.
الثانية تؤكّد أنّ مخابرات الجيش داهمت منازل السوريّين ومنازل عائلاتهما وفرضت طوقاً أمنيّاً وعزّزت انتشارها على طول الطريق حيث كان الأخوان الحسين يقومان بمهمّة تسليم أكرم جمعة إلى آل جعفر. وبنتيجة الضغط والتطويق لم يتمكّنا من تسليم المخطوف جمعة إلى بيت جعفر وتركاه على الطريق من دون دفع أيّ فدية.
يُذكر أنّ حسن وحسين عباس جعفر أعدّوا منذ سنوات كميناً أدّى إلى استشهاد أربعة من عناصر الجيش. لاحقاً هربا إلى الإكوادور، ثمّ قامت جهة حزبية بتسهيل عودتهما إلى لبنان.
وقد عثر أمس الاستقصاء على سيارة المخطوف جمعة في منطقة بوداي.
من هدّد حمود والأمين بالقتل؟
الأهم أنّ مَن هو على رأس “المطلوبين” في منطقة بعلبك-الهرمل وصولاً إلى “مربّع” الزعيترية وكلّ أوكار مافيات التهريب والخطف هو “رأس الدولة” قبل رأس الخارجين على القانون المسترخين “المرتاحين على وضعهم” لأنّه لا “قويّ” فوق رأسهم ولا من يحزنون.
فالدولة فاقدة لأيّ هيبة وقوّة ردع، والقرار السياسي غائب، فيما الأجهزة الأمنيّة الموجودة بثقلها في إحدى أكثر البقع خطورةً على الأمن القومي تقوم وحدها بكلّ ما بوسعها للجم مشروع تمدّد عصابات الأمر الواقع الذين ثبّتوا مربّعهم الأمنيّ “الخاص ناص” الخارج عن السيطرة.
أمّا الوجه الآخر للكارثة فهو “إنجاز” السلطة المتمثّل في تثبيت معادلة “حاميها حراميها”. فقد انضمّ إلى شبكة المافيات في سنوات المحنة، خصوصاً بعد العام 2019، بعض العسكر من مختلف الأجهزة الذين وجدوا أنفسهم “رهينة” الحاجة والعوز فانغمسوا في أعمال غير مشروعة من ترويج مخدّرات واتّجار بها وسرقة وتسهيل مرور مطلوبين على الحواجز وصولاً إلى المشاركة في أعمال خطف.
لكنّ هذه العيّنة من العسكر محدودة جدّاً، و”الأمن العسكري” بالمرصاد لها. فالأجهزة الأمنيّة تخوض معركة صعبة جدّاً في ملاحقة الخارجين على القانون مع استنفار دائم في بقع تُصنّف بالمعطى الأمني بـ”المعادية”، بالنظر إلى أنّ شبكة هذه العصابات متغلغلة كالأخطبوط في عمق البلدات، و”عيونها” وأسلحتها في كلّ مكان.
النتيجة هي كرٌّ فرٌّ بين الأجهزة و”المطلوبين”، خطف ثمّ تحرير مخطوفين، مداهمات واعتقالات يعقبها ثأر عادة ما يطول أهالي عسكر وضبّاط، و”فويسات” (voice message) منتشرة عبر واتساب تطول كبار الضباط، وآخرها تلك التي استهدفت رئيس شعبة المعلومات العميد خالد حمود ورئيس فرع مخابرات البقاع العقيد محمد الأمين مع تهديد صريح بالقتل لكلّ منهما.