“قارب الموت”: اعتقالات للجيش والمهرّبون محميون سياسياً..
يتضاءل أمل خروج ضحايا “قارب الموت” من عمق البحر. هذا ما يوحي به على الأقل، مسار تلكؤ السلطات بتحمل مسؤولياتها، بعد مرور 6 أيام على هذه الفاجعة، التي سقط ضحيتها لبنانيون وسوريون وفلسطينيون، جمعهم قدر واحد: الغرق هربًا من لبنان.
من المسؤول؟
وفي حين يسعى كثيرون إلى استغلال القضية، خصوصًا بعد أن انعكست فتوراً كبيراً بالأجواء الانتخابية في طرابلس، وتسببت بإحراج شديد في حركة المرشحين وأصحاب اللوائح، يسعى بعضهم لتوجيه خطابه نحو ذوي الضحايا، طمعًا بكسب مزيد من الأصوات، بينما انكفأ آخرون عن المشهد.
وبعد وقوع الكارثة ليل السبت، وما تبعها أخيرًا من توالي فيديوهات مصورة تظهر اللحظات الأخيرة ما قبل الموت غرقًا، أو تلك التي تظهر فرحة عائلات وغصتهم قبل مغادرة طرابلس مع أطفالهم نحو القارب، بدأت تتصاعد التحذيرات من الاستثمار السياسي والانتخابي للحادثة المروعة. وبصرف النظر عن هذه المحاولات، والتي هي واقعة بطبيعة الحال، لكن تعميمها في الواقع يشكل هربًا ممهنجًا من الإجابة عن سؤال: من المسؤول عن غرق هؤلاء الضحايا؟
المهرّبون وشبكاتهم
القضية يتجاوز حصرها بين الجيش وقارب الهاربين. وإذا كان لا ثقة للبنانيين بتحقيقات شفافة تحمل المؤسسة العسكرية مسؤوليتها، لجهة الطريقة التي تصرف بها خفر السواحل التابع للجيش وضابطه مع المركب. ثمة مسألة جوهرية أخرى يجري تحريف النقاش حولها، وهي عن دور المهربين وعلاقتهم بقيادات سياسية وأطراف أمنية شمالًا.
وكما هو معلوم، هذا ليس أول قارب هجرة غير نظامية يخرج من سواحل الشمال باتجاه أوروبا أو قبرص. والفرق الوحيد أنه لم ينجُ كأسلافه، بل غرق بعمق تجاوز 400 متر في ظروف غامضة، غير مرتبطة بأحوال الطقس والبحر.
سياسيون وأمنيون
لكن ما هو الأكثر ترجيحًا، أن ظاهرة نشاط شبكات التهريب والمهربين لا تتجزأ. سواء لنقل مهاجرين غير نظاميين عبر البحر، أو تلك الشبكات التي تنشط عبر الحدود اللبنانية السورية لنقل الهاربين والبضائع. فهذه الشبكات حتمًا ليست واحدة، لكن ما يجمعها هو واحد: غطاء سياسي وتغاضٍ أمني. فهل يجب أن ننسى مثلًا تورط نواب وقيادات سياسية في عكار وفي بعلبك الهرمل بعمليات التهريب وتنظيم حركة المهربين لأهداف مادية وسياسية وأمنية وسلطوية؟
وفي هذا السياق، تفيد معلومات “المدن” أن مدبّر عملية هروب قارب الموت، وهو من آل الدندشي، نشط سابقًا بعدد من أشكال التهريب التي شهدتها طرابلس. وهذا الرجل، تنقل بعلاقاته على مدار السنوات الفائتة، مع معظم قيادات طرابلس، وسعى للاستفادة منها كما استفادت هي منه كمفتاح بالشارع.
ومع ذلك، فإنه هذه المرة كان ينوي الهروب مع عائلته، وقد سقط العدد الأكبر من الضحايا من آل الدندشي. بمعنى أن عملية الهروب بالنسبة له أخذت طابعًا عائليًا، مع آخرين لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، دفعوا عن كل فرد معدل ألف دولار، كتغطية لنفقات مركب هو أساسًا غير مجهز، ولم يكن فيه سترات نجاة.
وتفيد المعطيات أن الدندشي جرى توقيفه ثم جرى الإفراج عنه. في حين، ما زال سائق المركب وهو سوري الجنسية من آل الجندي، موقوفًا لدى وزارة الدفاع. وقد صدر بيان عن قيادة الجيش، أعلنت فيه أن دورية من مديرية المخابرات أوقفت في طرابلس المواطنين: (خ.خ)، (ع.ط)، (م.ن)، (ف.ع)و (خ.هـ)، أثناء تحضيرهم لتهريب حوالى 85 شخصاً عبر البحر بطريقة غير شرعية، مستخدمين مركباً قاموا بشرائه وتجهيزه وصيانته، باستعمال مبلغ مالي جمعوه من هؤلاء الأشخاص (400 ألف دولار أميركي تقريباً). وقد تم ضبط المركب في ميناء أحد المنتجعات السياحية. وبوشر التحقيق مع الموقوفين بإشراف القضاء المختص.
مأساة المفقودين
أما المأساة الأساسية، فتتمحور حول مصير ما لا يقل عن 23 مفقودًا في البحر. وترجّح كل المعطيات وجودهم داخل المركب في غرفته السفلية، وهو موجود بعمق 400 متر، بينهم لبنانيون وسوريون وفلسطينيون، ومعظمهم نساء وأطفال.
وتفيد معطيات “المدن”، أنه لم تتوفر حتى الآن إمكانيات لانتشال المركب من هذا العمق، وأن الملف عند وزير الدفاع والحكومة، وهم يتواصلون مع جهات خارجية مثلما أقرت الحكومة في جلستها الأخيرة، لتوفير مساعدة بهذا الاطار، وسط مخاوف من احتمال عدم تحقق ذلك، نظرًا لما يتطلب من قدرات عالية وإمكانيات لوجستية.
وأمس الخميس، واصلت عناصر من وحدة الإنقاذ البحري في الدفاع المدني ومن المراكز البرية المجاورة، العمل لمؤازرة الوحدات البحرية في الجيش اللبناني، في عمليات البحث عن المفقودين، من دون الوصول إلى نتيجة.
وليلًا، نفذ عدد من أهالي مفقودي المركب، اعتصامًا أمام قصر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في الميناء، للمطالبة بتكثيف الجهود والإسراع في كشف مصير باقي المفقودين.
توازيًا، تشير المعطيات أن المياه الإقليمية أصبحت أكثر مراقبة من قبل الجيش بعد تعزيز إمكانياته بتتبع عمليات الهجرة غير النظامية. في حين يرى كثيرون، أن مأساة القارب وكل التشدد بالمراقبة، لم يشكل بعد رادعًا لمئات الأسر التي تفكر بالهرب عبر البحر بأي ثمن، لكسب صفة لاجئين في أوروبا، وتحديدًا من المناطق المهمشة مثل طرابلس، التي تتكثف فيها كل مظاهر انحلال الدولة وتقاعس السلطات والسياسيين عن القيام بواجباتهم.