كيف لبسنا الزيتي في 13 نيسان؟

من يتساءل متى وكيف بدأت الحرب، جوابنا له أنها بدأت قبل 13 نيسان 1975، لأن أحداث عديدة سبقت الانفجار الكبير عبر بوسطة عين الرمانة، وهي تمدد الوجود الفلسطيني في لبنان وتغلغله في المناطق المسيحية وانتشار السلاح غير الشرعي وغزوات هنا وهناك، وعمليات خطف في بيروت وضواحيها وصولاً إلى مناطق الأطراف في لبنان.

حتماً لم نكن نحن المسيحيين نعتبر اننا في مواجهة مع شركائنا في الوطن من المسلمين، بل مع الفلسطيني الذي يمارس عمليات وقحة في الداخل اللبناني، وبات يعتبر لبنان البلد البديل عن فلسطين.

هكذا وعيت على الحرب، وتكوّنت أمام مخيلتي الصغيرة مشاهد تل الزعتر والأسواق في وسط بيروت، وقد تسنى لي أن أعيش فصولاً منها عن قرب رغم صغر سني، كم من مرة شاهدت فيها عمي وشباب الحي يتدربون بالزيتي، لم تكن الأمور منظّمة بل عفوية والكلام عن “كم يوم وبتنتهي المعارك”، اختلطت مع الكبار ورحت أتعلم تقنيات الرماية احياناً في زواريب الشارع الذي اقيم فيه بالأشرفية، وكنت كلّما أكبر اتعرّف على اسلحة أكبر!

عشنا حرب المئة يوم في الأشرفية عام 1978 والحصار المحكم وشهدنا كيف بزغ نجم بشير الجميل، وكان شباب المقاومة اللبنانية يعيشون بيننا، اختبرنا كل شيء معهم: النار والبارود والدماء. هم كانوا الحراس وحماة المنطقة، بعضهم ورغم عددهم القليل تفوقوا على انفسهم ووقفوا في وجه حشود الجيش السوري، وبعضهم سقطوا شهداء، كنا نبكي يوماً لفقدان عزيزي على قلوبنا ثم “نكفكف” دموعنا، نحن نستمر بالصمود وهم في المقاومة…

“السوري عدوك”…هذا ما كنا نكتبه على جدران شوارعنا، ويعد انتصار المقاومة في الأشرفية وانسحاب السوري انتشرت صور بشير الجميل في نظارات الـ”رايبن” حاملاً بندقيته، وهكذا تكوّنت صورة “البطل” في أذهاننا..

ثكنة الشحروري للقوات كانت قرب بيتي، كل الأشرفية كانت قوات، رميل، ساسين، سيوفي، الحكمة…وعلى مقاعد مدرسة الحكمة كنا نتعلّم بضعة أيام ونمضي في البيت أسابيع بسبب موجات التصعيد والمعارك المتنقلة، لا فرق بين تلميذ الحكمة وعنصر “القوات، لا حدود بينهما، هذا ما علق في وجداني…

كثر منا جذبته القضية التي تكلم عنها البشير والنبرة التي كان يستخدمها، محظوظون نحن ابناء هذا الجيل اننا تعرفنا على بشير وعشنا “أسطورته”، استهوتنا مسألة المقاومة، وبعد انتظام احزاب الجبهة اللبنانية في القوات اللبنانية وتوحيد البندقية، وقد عشنا تفاصيلها، وزعلنا في البداية بسبب اصطدام الكتائب والأحرار، إلا ان نضج الرئيس كميل شمعون ووعي القائد بشير أدى إلى ولادة “القوات”…

كنت أعيش يومياتي كمراهق أنا وابناء جيلي على قصص القوات اللبنانية، وما لا يخبرنا به المقاتلون وهم كانوا اصدقاء ورفاق، كنا نقرأه في مجلة المسيرة، قنات، زحلة، انتخاب بشير، استشهاده، حرب الجبل، انتفاضة 12 آذار، انتفاضة 15 كانون، وبروز إسم سمير جعجع، في ذلك الحين كنت بلغت سن الشباب، وأصبحت متعمقاً بكل قصص المقاومة وفكرها السياسي، كنا نتمنى أن تنتهي الحرب لكن ان تستمر “القوات”، تعرفت جيداً على ثكنة المدرعات قرب بيتي بل عشت فيها، وأصبحت رفيقاً حقيقياً لشبابها الذين كانوا من عمري وبعضهم أكبر قليلاً.

أصبحنا خبراء في الأمور العسكرية، نعرف انطلاق القذيفة من صوتها، ثم نحدد الأماكن التي ممكن ان تسقط فيها، ونتأكد من ذلك في ملحقات اعلامية عبر صوت لبنان او لبنان الحر، اناشيد القوات لم تكن تفارق مسامعنا، حفظناها ورددناها وساعدتنا على الصمود، مضت 15 عاماً، رأينا فيها المخلص والخائن، لم نكن ملائكة وقديسين، لكن لم نكن مجرمين، ولم نقم إلا بواجب الدفاع عن النفس، حافظنا على وجودنا، هكذا كانت الحرب في وجداننا لأننا ولا مرة اعتدينا على الآخرين.

لا نريد تكرار الحرب، نقولها بعدما اجتزنا أكثر من نصف عمرنا، أكثرية من عاش الحرب من اولها بلغ الخمسون من العمر، وأنا منهم، نحن نعرف قيمة السلام لأننا اختبرنا اهوال الحرب وفقدنا اغلى الناس، لكن لا أحد يهددنا او يحاول ترهيبنا، لأننا لسنا من النوع الذي يخاف، وإذا عادت بعض القوى إلى ممارسة ما فعله الفلسطيني او السوري لن نتردد في لحظة ماـ، تتقاعس فيه القوى المسلحة الشرعية في الدفاع عن بيوتنا وعائلاتنا واعراضنا، أن نعود لنحمي أنفسنا ووجودنا، وهذا حق طبيعي ومقدس، ونأمل أن لا نصل يوماً إلى هذا الخيار والقرار!

Exit mobile version