سقطةٌ ديبلوماسية جديدة وقع فيها لبنان بعد قرار الحكومة ووزارة الخارجية والمغتربين الامتناع عن التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة على قرار تشكيل هيئة مستقلّة لجلاء مصير عشرات آلاف المفقودين في سوريا، وهو قرار سياسيّ يحمل في طيّاته أبعاداً كثيرة.
لا تُريد الحكومة اللبنانية استفزاز النظام السوريّ ولا حتى المشاركة بمحاسبته على إثر جرائم ارتكبها الأخير في حقّ العديد وبينهم لبنانيّون، منها ما يتعلّق بقضية المخطوفين في السجون السورية، لا بل إنّ لبنان الرسميّ يستغلّ كلّ فرصة من أجل تعويم هذا النظام في الداخل والخارج، وذلك ينطلق من سيطرة “الحزب” على القرار الاستراتيجيّ للحكومة.
حاول وزير الخارجية والمغتربين عبدالله بوحبيب تبرير الأمر رابطاً القرار بتمنّع عددٍ من الدول العربية عن التوقيع أيضاً، وبأفضلية حلّ الملفّ عبر الحوار مع سوريا، لكنّ بوحبيب يعلم أنّ ربط قرار لبنان بقرارات دول أخرى يمسّ بالسيادة، وكان الأجدى به الإعلان عن الأسباب المباشرة، وعدم التلطّي بحجج لم تُقنع اللبنانيين، لا بل زادت من سخطهم.
لا يُخفى عن بوحبيب انتماؤه العونيّ، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عدداً من المخفيّين في سوريا كانوا عناصر في الجيش اللبناني الذي كان تابعاً آنذاك لميشال عون، وبالتالي فإنّ تناقضاً يحكم مسار تعاطي هذا الفريق مع هذه القضية، خصوصاً وأنّ عون لم يُفاتح بشّار الأسد بالموضوع طوال سنوات حكمه، وخلال الزيارة الأخيرة إلى دمشق أيضاً.
لبنان يتواطأ مع النظام السوريّ!
عضو تكتّل “الجمهوريّة القويّة” النائب غيّاث يزبك يرى مبرّرات بوحبيب “واهية وغير مقنعة، لأنّ لبنان معنيّ مباشرةً وجودياً وأخلاقياً في هذه القضية، وذلك نسبةً إلى آلاف اللبنانيين المعتقلين في سجون النظام السوري، وبالتالي على لبنان مقاضاة النظام السوري والبحث عن كشف مصير مواطنيه”.
وفي حديث لـ”النهار”، يردّ يزبك على الحوار الذي تحدّث عنه بوحبيب مع النظام السوري لكشف مصير المعتقلين، ليسأل: “لماذا لم يبدأ هذا الحوار منذ سنوات؟ إنّ حلفاء النظام موجودون في الحكومة ووزارة الخارجية منذ سنوات وكان بإمكانهم فتح هذا الملفّ، لكنّهم لم يضعوا نفسهم مرّةً في موقع ندٍّ مع سوريا”.
ويعتبر يزبك خطوة بوحبيب “تواطؤاً مع النظام السوري وخضوعاً له، وتنكّراً لدور لبنان التاريخيّ في إقرار شرعة حقوق الإنسان من خلال شارل مالك”، ويلفت إلى أن “عدم مطالبته بكشف حقائق عن الأسرى يشجّع بشّار الأسد على احتقار لبنان”.
هل يُمكن مُحاسبة بوحبيب؟
وفي السياق، ونسبةً إلى أهمية ملفّ المخطوفين في سوريا، بدأ المعنيون بالبحث عن سُبل لمحاسبة وزير الخارجية على قراره، خصوصاً وأنّه وزير في حكومة تصريف أعمال منقوصة الصلاحيات، فهل يُمكن لمجلس النواب محاسبته على قراره؟ وما هي السبل القانونية لذلك؟
يؤكّد يزبك عدم قدرة مجلس النواب على مساءلة ومحاسبة بوحبيب برلمانياً على قراره لأنّه وزير حكومة تصريف الأعمال، ويُشير إلى مجلس محاكمة الرؤساء والوزراء في مجلس النواب، ليقول: “يُمكن اعتبار خطوة بوحبيب “خيانة عظمى” يُحاكم عليها في هذا المجلس، إلّا أنّه لا يلتئم ويتمّ تعطيله من قبل المنظومة”.
المحامي والأستاذ الجامعي الدكتور عادل يمّين يتطرّق إلى الخيارات الدستورية لمحاسبة بوحبيب، ويُشير إلى أن “لا يُمكن لمجلس النواب حجب الثقة عن الحكومة أو أيّ وزير، طالما أنّ الحكومة مستقيلة منذ بدء ولاية البرلمان الحاليّ”.
وفي حديث لـ”النهار”، يقول إنّ “بالإمكان توجيه أسئلة واستجوابات إلى الحكومة والوزراء، ويتعيّن على الوزراء توجيه الأجوبة إلى النواب أصحاب الأسئلة”.
أمّا وعن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، يلفت إلى أنّ “في حال الإخلال جرمياً بالواجبات الوظيفية وفق المادة 70 من الدستور، يُمكن إحالة الملف بأغلبية ثلثي مجلس النواب إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء الوزراء”.
لكن يميّن يُِشير إلى أنّ “هذا الموضوع غير مُمكن في هذه الحالة، لأنّ الملفّ سياسي وليس جرمياً”.
ويذكر يمّين طريقة دستورية أخرى، يقول “بإمكان مجلس النوّاب تشكيل لجنة تحقيق برلمانية، ولكنّ هذه اللجنة تنتهي إلى وضع تقرير وإصدار موقف سياسي، وطالما لا فعل جرمياً لن تكون قادرة على بلورة اتّجاه نحو تحرّك ذي طابع برلمانيّ قضائيّ، لأنّ المسألة سياسيّة بحت”.
تخاذل لبنان مرّة جديدة تجاه مواطنيه، وفضّل العلاقة مع النظام السوري على محاولة البحث عن لبنانيين يقبعون في سجون سوريا منذ عشرات السنوات، ومنهم قد يكون قضى تحت التعذيب. نتائج هيئة الأمم المتحدة قد لا تكون مضمونة، لكنّ دعم لبنان المفترض لها أخلافيّ ورمزيّ، ويعبّر عن جدّية الحكومة في السؤال عن مواطنيها، فيما اتّخاذ مواقف معاكسة لا ينمّ سوى عن فقدان الحكومة لقرارها لصالح “الحزب” ومحوره.