للّذين لم ألتقهم
لطالما فكّرت برفاق لنا، تأت بهم الحياة عن الطّريق، ولكم تمنّيت أن أصافحهم بقلبي، لا بكفي.
أولئك الّذين ما طالهم ضوء عند المسير، الّذين ساروا خلف مصابيح حزنهم النّبيل، يشعلون الضّوء للقادمين. لم يرتدوا إلّا صبرهم والسّكوت، لم يتسلّقوا المنابر، وما استضافتهم شاشات تلفزة، ولا احتلّت صورهم صفحات الجرائد.
كانوا منشغلين بكنس الظّلام من دروب الوطن، وما هجروها في أحلك اللّيالي عتمة.
تعكّزوا على ما تبقّى من عظامهم، ومشوا يسكبون العرق، زيتاً في مصابيح الأمل، لئلّا يُطفَأَ ضوء القضيّة.
لأمٍّ دفنت نصفها، وكلّ قلبها، وما عاد عليها الغياب بأكثر من دمع وصمت، وما ملّت زيارة قبرٍ بشلح زنبق، وراية بيضاء. هي لم تقسم بإكمال ما بدأ الأبناء، لكنّه دأب الأمهات، يقدّسن ما تركه الغائبون.
لأخت هوى جزؤها الأقوى، وقد راكمت خلفه كلّ أحلام الطّفولة، وما أذنت للرّيح باقتلاع شتول، ظلّت تشير صوب الوطن.
لزوجة هجَرت فراشاً، ضنّ بطمأنينتها، فأقامت في الأرض عمائر أمل لا ينثني.
لأب ما حمل في الطّريق أكثر من صورة، يعدّل إطارها كلّ مساء، لئّلا تنكسرَ القضيّة.
لابن غفا، يحلم مردّداً: بابا..! أفاق ذات صبح يعتل الصّليب، وما ملّ الإقامة في الطّفولة.
لأمثالهم ممّن أقصاهم العُمْر، والمرض، والتّعب، وتكاليف الحياة.
لرفيق قاد عربته على جوع. لرفيق فتح محلّه على يأس. لرفيق روى زرعه دمعاً ومطراً. لرفيق ملأ الجبال خطى خلف قطيعه المبارك. لرفيق مزج التّعب بملح الطّريق. لبائع. لحلّاق. لرفيق عاندته سبل الحياة، وما باع آخر ما في قنديله من زيت الوطن. لمن خيّل إليهم أنّهم قد باتوا في النّسيان، أو أنّهم أضاعوا أعمارهم في رهان خاسر، ونثروا الجهود في مجاري اللا شيء.
لأولئك أكتب:
كلّ يقدّم ما يملك، فطير يبني أيكاً لصغاره، يتم معزوفة الرّبيع المنتظر. وشرنقة تغور في جذع، لترفّ فراشة فوق أزهار الحقول، وحبّة قمح تنبت سنبلة، لتغدو رغيف أسرة فقيرة، كذلك أنتم، وأنتم كلّ ذلك.
يا أعمق حكايانا الّتي لم تكتب، وعقيدتنا التي لم تهزم. أنتم هناك بِصَمْتِكُم، وصبركم، وحزنكم، وجوعكم، وانتظاركم الذي تختفون فيه. أنتم بما في ذاكرتكم من ألم ووجد. أنتم بما ظلّ من صلوات على الشّفاه والرّكب. بما ظلّ من رجاءاتكم في فضاء الكنائس والأودية والجبال. بما ظلّ في مآقيكم من دمع.
أنتم الطّريق والقضية والوطن. أنتم أهلي، وهل يلام المرء على حبّ أهله؟!