ملايين الليرات لوجبة إفطار رمضان.. “مؤشر الفتوش” يكشف حال اللبنانيين
استقبل اللبنانيون شهر رمضان هذا العام بسعر صرف للدولار تخطى المئة ألف ليرة، مما انعكس جنوناً على أسعار السلع والمواد الاستهلاكية، وبالتالي على المائدة الرمضانية، التي اختفت منها أطباق كانت تعد في السابق أساسية.
وبحسب دراسة أعدها مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، قبل بدء شهر رمضان، تخطّت قيمة الإفطار اليومي للفرد مبلغ 1,200,000 ليرة لبنانية، مما يعني أن كلفة الإفطار الأساسي لأسرة من 5 أفراد تتخطى الـ6 مليون ليرة لبنانية يومياً، ما يشكّل حوالي ضعف قيمة الإفطار اليومي قبل عام بالتحديد.
كما أظهرت الدراسة ارتفاعا حاداً في مؤشر كلفة الفتوش “بالمفرق” مقارنة مع العام السابق، وذلك بنسبة تبلغ حوالي 187%، ليسجل مؤشر الفتوش الذي يتضمن أسعار 13 مادة، 95,000 ليرة لبنانية للشخص الواحد قبل بضعة أيام من بدء رمضان، مقارنة مع 33,100 ليرة في العام السابق، وخلال عامين ارتفع مؤشر الفتوش بنحو 534% مقارنة بقيمة 14,985 ليرة عام 2021.
والأسبوع الماضي تحدث صندوق النقد الدولي، عن توقعاته السلبية والقاتمة بالنسبة لاقتصاد لبنان، متوقعاً عدم خروج البلد من أزمته المالية المتفاقمة دون إصلاحات، وبالتالي الاتجاه إلى مزيد من التضخم، وفقا لوكالة “أسوشيتد برس”.
“جواهر” مستحدثة
لم تتوقع مايا يوماً أن تضطر إلى حمل كمية كبيرة من العملة المحلية في حقيبتها كي تشتري عدداً لا يتجاوز أصابع اليد من المواد الغذائية، وتقول “قصْد السوبرماركت أصبح كابوساً بعدما خرجت الأسعار عن قدرتي. كيلو الدجاج بـ 700 ألف ليرة، وكعائلة مؤلفة من خمسة أشخاص نحتاج إلى ميلون ليرة لإعداد هذه “الألماسة” البيضاء، أما “الياقوت” أي اللحوم الحمراء فقد باتت حكراً على من تبقى من الطبقة الغنية، وأولئك الذين استفادوا من الأزمة وتمكنوا من حجز مقاعد لهم ضمن هذه الطبقة”.
وتشدد مايا على أن نتيجة دراسة “مرصد الأزمة” أكثر من منطقية، “إذا ما قررت العائلة إعداد المقبلات كالحساء والسمبوسك والحمص بالطحينة والفتوش والفتة، إضافة إلى الطبق الرئيسي والعصائر والحلويات”، شارحة: “كيلو البندورة بـ 60 ألف ليرة، وربطة النعناع بـ30 ألف، اما الخسة فسعرها 60 ألف، باختصار إعداد صحن فتوش لخمسة أشخاص يكلّف نحو 350 ألف ليرة، هذا إذا ما تحدثنا عن الخضراوات، أما الحبوب لا سيما الأرز فوصل سعر الكيلو منه إلى 120 ألف ليرة، في حين أن كيلو الحلويات بالقشدة يتراوح سعرها بين 15 و20 دولار”.
وبعد أن كانت الفتة باللبن والكبة النيئة والمغربية من الأطباق البديهية على مائدة رمضان، إذ لم يكن اللبنانيون يقيمون لثمنها أي اعتبار، اختلف الأمر الآن بحسب مايا، وتقول “اختفت هذه الأطباق عن مائدتنا، وإن قررنا إعداد أحدها فسنعتبره طبقاً رئيسياً لا ثانوياً، أما الحلويات فأشتريها بالقطعة أو الأوقية”.
“لبنان منهار ونحن كذلك” تقول مايا “وبعد أن كنا ننتظر الشهر الكريم للتلاقي والتقارب من خلال تبادل العزائم، أصبحنا نجتمع على الألم والحسرة والحديث عن الأزمة وغياب الدولة وتفلت الأسعار”.
وردّ مرصد الأزمة ارتفاع كلفة إفطار الشخص، إلى “استمرار الارتفاع في أسعار السلع والمواد الاستهلاكية بوتيرة أكبر من الارتفاع في سعر الصرف. ويعود ذلك بشكل كبير إلى أن التجار يعتمدون هامشاً مضافاً إلى سعر الصرف في السوق الموازي، لضمان قدرتهم على توفير السيولة اللازمة لإعادة تكوين مخزونهم من البضائع، دون تكبد خسائر مالية من جراء الارتفاع المستمر في قيمة الدولار مقابل الليرة اللبنانية. وحيث أن كثيراً من الناس باتوا يستغنون عن مكونات كثيرة في طعامهم وموائدهم، إلا أنه يصعب الاستغناء عن الخضار والفواكه الأساسية”.
وباستثناء اللوبيا التي شهدت أسعارها ارتفاعا ملفتاً في شتاء 2022، ومن ثم ارتفاعاً حاداً منذ بدء عام 2023، حافظت أسعار الخضراوات الأخرى، بحسب الدراسة “مثل البندورة والكوسا والخيار والبصل الأحمر والبطاطا، على منحى متوازٍ مع ارتفاع سعر الصرف، لتتباين بشكل واضح عنه منذ مطلع العام الحالي”.
أما الفاكهة، مثل التفاح الأحمر والموز والبرتقال، فقد شهدت أسعارها “تقلبات متفاوتة خلال عام، قبل أن ترتفع بشكل كبير جداً بالتوازي مع الارتفاع الحاد في سعر الصرف منذ مطلع العام الحالي. واتبعت أسعار اللحوم والدجاج منحى مماثلاً. أما أسعار البيض ومنتجات الحليب فقد بدأت المنحى التصاعدي منذ شهر تموز 2022، وخصوصاً أسعار الحليب المجفف، لترتفع بشكل حاد أيضاً مع بدء العام الحالي تماشياً مع الارتفاع المفرط في سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية. كما ارتفعت أسعار زيت الزيتون بشكل كبير وحاد منذ مطلع العام الحالي”.
وفيما يتعلق بالارتفاع الحاد بكلفة الفتوش فرده المرصد إلى التدهور المفرط بقيمة الليرة اللبنانية مقارنة بالدولار منذ بدء العام الحالي، وهو بالطبع – بسبب استمرار الأزمات السياسية وتأثيرها السلبي على الآفاق الاقتصادية – سيستمر بالارتفاع مقابل الليرة.
كما يعود الارتفاع الحاد في مؤشر الفتوش “إلى الزيادة في كلفة النقل بسبب ارتفاع أسعار النفط، والتوجه نحو التصدير لاستقطاب الدولار الفريش من الأسواق الخارجية وبالتالي تراجع حجم المعروض في السوق المحلي، بالإضافة الى ارتفاع أسعار الأسمدة المستوردة والبيوت البلاستيكية وكذلك أسعار صناديق التوضيب”.
مرحلة مصيرية
ثلاثة أسباب أدت إلى ارتفاع أسعار الخضراوات قبيل شهر رمضان، بحسب رئيس تجمّع مزارعي وفلاحي البقاع، إبراهيم ترشيشي” أولاً تراجع الإنتاج بسبب تدني درجات الحرارة، ثانياً تهافت المواطنون بداية رمضان على شرائها، ثالثاً استيراد نحو 70% من استهلاك اللبنانيين بالدولار من الساحل السوري والأردن، ونتيجة اقبال مواطني هذين البلدين على البضائع ارتفع سعرها” مشدداً “طالما أن سعر صرف الدولار غير ثابت لن تثبت أسعار الخضار”.
ولفت ترشيشي في حديث مع موقع “الحرة” إلى نقص المعدل العام للأمطار هذا العام، قائلاً “الشتوة الأخيرة اراحت المزارعين كونها خفضت العجز المائي قليلاً، إلا أن ذلك ليس كافياً، ولا زلنا ننتظر كميات أكبر من الأمطار على أمل الوصول إلى المعدل العام، من الآن حتى آخر السنة، والذي يبلغ في منطقة زحلة على سبيل المثال 600 ملم”.
أما رئيس جمعية المزارعين، أنطوان الحايك، فيرى أن المشكلة الأساسية تكمن بتراجع الإنتاج والاستهلاك بنحو 80% منذ الأزمة الاقتصادية حتى اليوم، ويشرح “قلّص المزارعون المساحة التي كانوا يزرعونها لعدة أسباب، أولها حجز أموال المودعين في المصارف ومن ضمنها أموال الشركات الزراعية التي كانت تقرضهم لشراء الأدوية والأسمدة والبذور، ما فرض عليهم الدفع نقدا، ثانياً ارتفاع أسعار المحروقات، فان أراد المزارع ري مزروعاته بمياه الآبار لن يغطي إنتاجه كلفة المازوت”.
والسبب الثالث لتراجع إنتاج المزارعين، يكمن بحسب ما يقول الحايك لموقع “الحرة” بتلاعب سعر صرف الدولار، ويشرح “يشتري المزارع مستلزماته بالعملة الأجنبية في حين يبيع إنتاجه بالليرة اللبنانية وإلى حين قبض ثمنه يتكبد خسائر مع كل ارتفاع إضافي للدولار”، متوقعاً مزيداً من تراجع الانتاج بنسبة تتراوح ما بين 30 إلى 40% مقارنة مع السنة الماضية.
ويتساءل رئيس جمعية المزارعين/ “كيف سيتمكن المزارع من الصمود في ظل انهيار البلد، ولا مبالاة المسؤولين”، مشيرا إلى أن” كيلو الملفوف في أرضه بـ 7000 ليرة، ما يعني كل 15 كيلو بدولار، أما ارتفاع أسعار الخضار في الأسبوع الأول من رمضان فيعود إلى زيادة الطلب عليها كما كل سنة، لكن المختلف هذا العام تدني قدرة المواطنين الشرائية بشكل كبير في وقت اشترى التجار بضاعتهم على سعر مرتفع، بزيادة تراوحت بين 30 إلى 100%”.
ويشدد الحايك على أن القطاع الزراعي في مرحلة مصيرية، “المستقبل قاتم جدا، فعدد الكبير من المزارعين توقفوا عن الزراعة لأنه لم يعد بإمكانهم الاستمرار في ظل هذا الوضع، وأعداد أخرى تسير على ذات الطريق، فمن لم يتمكن من تركيب ألواح طاقة شمسية في البقاع لن يتمكن من الزراعة هذا العام”.
“مجاعة مبطنة”
ما توصلت إليه الدراسة منطقي، بحسب الخبيرة الاقتصادية الدكتورة ليال منصور، وذلك “إذا ما تم احتساب كلفة الغاز والكهرباء والبنزين للذهاب إلى السوق لشراء الحاجيات”، مشددة في حديث مع موقع “الحرة” على أنه “لم يعد لليرة اللبنانية قيمة، فقد أصبحت في عداد الأموات، وبالتالي لا يجب الأخذ بها معيارا، ومن الضروري الاستغناء عنها، ودولرة الرواتب والضرائب والأسعار، وإلا سيصل سعر صرف العملة الخضراء إلى ملايين الليرات في السنوات المقبلة”.
بل قد يحتاج الفرد إلى أكثر من 1,200,000 ليرة كما تقول منال، فيما لو أراد إعداد سفرة رمضانية تحتوي على الأطباق التي اعتاد عليها قبل الأزمة الاقتصادية، أما الآن “فبالكاد يتمكن أغلبية اللبنانيين من اعداد وجبة رئيسية واحدة، ومن دون لحوم، وذلك بعد أن كانوا يعدّون طبقين رئيسيين على الأقل، أما الأطباق الثانوية فأصبحت من ضمن لائحة الرفاهية التي لا تتناسب مع الأزمة الاقتصادية”.
وتقول لموقع “الحرة”، “نحن في مجاعة مبطنة، نأكل كي نسد جوعنا، لا كي نتلذذ، وما أخشاه أن نصل إلى مرحلة يصبح فيها الشبع أقصى ما نتمناه، إذ للأسف لا شيء يوحي بأن هناك حل في الأفق”.
أما ابن طرابلس عمر لبابيدي فيقدر أن العائلة تحتاج إلى مليون ليرة يومياً لإعداد إفطار، مما يعني 30 مليون ليرة شهرياً، ويقول “كيف يمكن لرب عائلة تأمين هذا المبلغ فيما لو كان راتبه بالعملة المحلية”، مشدداً “لولا أن عدداً من الجمعيات الخيرية والدولية تبادر إلى تقديم المساعدات لما تمكّنت عائلات من الصمود في ظل التفلت اللامحدود لأسعار المواد الغذائية وكذلك الحلويات، التي تسعّرها بعض المحلات بالدولار، ما دفع عدد كبير من المواطنين إلى شطبها عن لائحة مأكولاتهم لحين الخروج من النفق المظلم الذي تمر به البلاد”.
وتفلت الأسعار نتيجة طبيعية، ويقول رئيس جمعية حماية المستهلك الدكتور زهير برّو، لغياب السياسات الاقتصادية المتكاملة، التي تعيد لليرة اللبنانية وهجها وللاقتصاد قوته وإنتاجيته، و”طالما أن السلطة السياسية لا تقوم بدورها في التخطيط والاستثمار في القطاعات الزراعية والصناعية والتكنولوجيا، سنشهد المزيد من انهيارات الليرة”.
ويشدد برّو في حديث مع موقع “الحرة” على أنه “لا ضبط ولا رقابة على الأسعار في الاقتصاد الحر، فما يحدد الأسعار هو نمط الإنتاج في البلد ووجود أو غياب الاحتكارات، أما الرقابة على الأسعار في بلدنا فهي اختراع لبناني”.
تفلّت تحت الرقابة
“من أجل الحفاظ على استقرار أسعار السلع في الأسواق وحرصاً على حماية المستهلك” سمح وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، للمحال التجارية والسوبرماركت قبل حوالي الشهر، بتسعير السلع بالدولار الأميركي، “بصورة مؤقتة واستثنائية”، هذا القرار تعتبره منصور “جيد للمستهلك وسيء للاقتصاد، لكن المشكلة أكبر من وزارة الاقتصاد، فهي تحتاج إلى حلول جذرية على مستوى الحكومة ومجلس النواب لضبط سعر صرف الدولار المتحكم الرئيسي بكل الأسعار”.
ورغم نقص العديد البشري، واضراب موظفي الدولة، تقوم وزارة الاقتصاد بجولات على السوبر ماركت والمحلات لمراقبة الأسعار، كما يؤكد المدير العام للوزارة محمد أبو حيدر لموقع “الحرة”، لافتاً إلى أنه “نسطّر محاضر ضبط عند أي مخالفة ونحيلها إلى القضاء المختص”.
تمكّن أغلب اللبنانيين رغم كل الغلاء، من التعايش مع الوضع ولو قليلاً بحسب منصور، شارحة “عدا عن المساعدات التي تقدمها بعض الدول، فقد أصبح لكل عائلة مدخولاً بالدولار، سواء بسبب تخصيص جزء من رواتب القطاع الخاص بالعملة الأجنبية، أو كون أحد أفرادها يقيم في الخارج، وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة الهجرة ارتفعت 150% منذ 3 سنوات إلى الآن، كما أن 50% من اللبنانيين يتمنون مغادرة الوطن من دون عودة”.
وسيترتب على اتساع رقعة الفقر وتراجع مستوى معيشة اللبنانيين، رواسب اجتماعية خطيرة كما تقول الخبيرة الاقتصادية “سواء تعلق الأمر بازدياد جرائم السرقات والقتل أو ارتفاع نسبة حالات الانتحار”، أما باحثو “مرصد الأزمة” فحذروا من خطورة آليات التأقلم السلبية التي يتبعها السكان، لناحية اللجوء إلى مواد غذائية ذات جودة ونوعية متردية، أو الاستغناء عن بعض المنتجات المفيدة للصحة، مما سيسبب أزمات صحية كثيرة في السنوات المقبلة، ستكون تبعاتها على القدرة المعيشية وعلى إنتاجية الأفراد، وكذلك على فاتورة الصحة العامة كبيرة وخطيرة جداً.