أقلقني الطقس جداً ليلة 15 و16 تشرين الثاني، وزاد قلقي توارد صور أوتستراد جونية الغارق في المياه، والسيارات العالقة فيه.
كنت قد بدأت قبلها أراقب موعد حلول الظلام. كان الليل يبتلع كلّ شيء في بلد هجَرته الأضواء عند السادسة إلى ربع مساء.
كان لا بدّ أن أسير تلك الطريق يوم 17 تشرين الثاني. كنت أقود السيارة ببطء، لشدة العتمة، أتلمّس إشارات الطريق التي تدلني.
لا أعرف ما الذي جعل البحر ينسكب فوق طريق غوسطا أثناء ذلك الصعود. أنا لست من الذين يخشون الطريق مهما توعّرت، أخوضها بلا تردد.
دخلت مكتب الانتظار مبللاً. يعانقني بعض الرفاق مرحباً، وبعضهم يناديني باسمي، ويطمئن عليّ. كانت بضع دقائق تلك التي قضيتها في قاعة الانتظار، أرتّب أفكاري، وأعيد في نفسي ما عليّ أن أقول.
كان السؤال القاسي في حنجرتي: “هل سأكون مقنعاً”؟
فجأة وجدتني أشعر بسلام عميق، جعلني أتساءل، عن مكان اختفاء كلّ ذلك القلق الذي حملته منذ أيام.
كنت أقول في نفسي: “أنا على بوابة الوطن، وما إن تنفتح حتّى أكون في قلبه”.
تذكرت أنني ما شعرت بسلام كالذي أشعره الآن إلا مرة واحدة من قبل، كان ذلك يوم كذّب الطبيب تقريراً طبياً سابقاً أفاد أن طفلي الصّغير داني ابن السنوت الثلاث يعاني من مرض الصّرع.
أنا على بوابة الوطن.
تقدم منّي رجل التشريفات، وأشار إليّ بمرافقته.
خطوت مطمئناً منسجماً مع قناعاتي، فأنا في الطريق التي أحبّ، على الرغم من كلّ ظروف الطقس والسياسة والتاريخ.
خلف باب يؤكد علو عتبته علو الوطن في عقل ذلك الرجل، كان يقف سمير جعجع، ينظر إليّ بهدوء، ترف فوق محيّاه علامات التّهليل والتّرحيب.
كنت عميقاً جداً في روحي، وبسيطاً جداً في وقوفي أمامه. لم أكن أنا قد بلغت ما بلغت من سلام. كان هو الذي ملأ القاعة بذلك.
عندما هممت بالمغادرة، كان ينظر إليّ بوجه يخبرني أني كنت مقنعاً.
كانت نصف ساعة، كانت حدثاً فارقاً في حياتي، جعلتني أتيقّن من حضور الحب، حضور الوطن، حضور التاريخ في الرجال.
كنت أمام رئيس حقيقي للوطن، لا رئيس جمهورية، رئيس تعنيه هموم الإنسان في بلده، رئيس يرفع محدثيه في أعين أنفسهم عالياً، رئيس يحمّل العائد من عنده عاطفته النبيلة لأهله والناس المتعبين.
كان لا بدّ أن أمرّ بفترة صمت، لأفهم ما عشته قبل أن أكتبه.
شكراً معراب. شكراً رفاقي. شكراً سمير جعجع. شكراً لزمن جعلنا على خطٍّ مستقيم واحد.