يا إرهابيين… أين التحقيق في 4 آب؟

كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” – العدد 1731

…لا، لا يمكن… لا يمكن إستعادة تلك اللحظة غير الموصوفة بإرهابها. منذ سنتين ونحن نحاول الهروب منها لكن عبثاً، صارت في نبض الشرايين، في دقات الذعر فينا، صارت هيك مثل جرس إنذار مخيف لن يتوقف طنينه يومًا، إلا لحظة نصبح في جماد القبور. 4 آب يا الله، 4 آب حين تحوّلت بيروت الى هيروشيما لبنان، 4 آب حين تشلّعت الإنسانية وصارت أشلاء على قارعة الحياة، ورقص الموت أقسى رقصاته على الإطلاق في مدينة الحياة والنور… 4 آب حين صار الأمونيوم المتفجّر هو بيت أشلائنا.

نريد أن ننسى لكن مستحيل، مستحيل، وليتنا نفعل. ستمر سنين طويلة وأجيال بعد أجيال، ولن ننسى 4 آب. ستكون اللحظة المروّعة بطلة الكثير من أفلام السينما، وسيعجز الخيال البشري عن تصوير وتوصيف ما حصل، لأن ما حصل كان أعظم وأخطر وأضخم من كل التوصيفات، والخيال البشري أعجز من أن يستطيع توصيفها. فقط من عاش تلك اللحظة هو بطل كل تلك المشاعر العاجزة في التعبير عن ذاتها.

سنتان، سنتان وبيروت تنوح، تتلوى، سقطت ذراعها فالتقطتها، تدحرج رأسها فلحقت به وألصقته بما تبقى من جسدها المدمّم، نفر الدماء من شرايينها كافة، فاستلحقت بعض ما تبقّى لتبقى تزحف في الحياة وتستمر. سنتان وأنين الشهداء والجرحى والمعوّقين، يمزق كل ذاك الدمار الهائل غير المسبوق في تاريخ الأمم، ووحدها الدولة اللبنانية لا تسمع لا ترى لا تشعر لا تتصرف، لا تكترث، دولة غارقة في عارها، إستباحت الألم والجراح كلها، وسلّمت أمرها بالكامل لإرهاب الدويلة، فمنعت التحقيق، وخوّنت المحقق العدلي وخوّنت معه حتى الأهالي، جعلتهم مشتبه بهم، جعلتهم مع الشهداء المشلّعين، متهمين بالخيانة والعمالة لأنهم تجرأوا وواجهوا ميليشيا الفصيل الإيراني، الذي جنّد كل إرهابه لمنع إستمرار التحقيق في تفجير المرفأ الارهابي، ونجح!!

أي وطن هذا يدعس على رؤوس الشهداء المبتورة عن أجسادها، يدعس على أشلاء بشرية لمواطنيه، ويهرس الإنسانية بإرهاب غير موصوف، فقط ليحمي نفسه ومحتلّه من المحاكمة؟! والسؤال الأخطر بعد، وأسألك من بعده الغفران، أي رب يا ربي، أي رب هذا يقبل ما حصل في بيروت؟ ومن بعدها يُرفع الإرهابي الى مصاف الحاكم، ويغرق الضحايا في وحول النكران؟! ألا يحق للأهالي أن يسألوا هذا السؤال؟ ألا يجوز لهم الكفر أحياناً بعدالة السماء بعدما تحوّلت عدالة الأرض في لبنان الى محرقة الإنسانية على عيون الربّ؟!

قد لا يجب أن نسأل أسئلة مماثلة، فهنا لبنان، ولبنان اليوم خلع عنه إنسانيته بالكامل لصالح الميليشيا وفساد السلطة، التي تراقب إشتعال ما تبقّى من إهراءات القمح ولا يرمش لها جفن. حرقت الأجساد ودمع الأهالي، فلا بأس أن يستمر حرق آخر الدلائل على ما اقترفت وحشيتهم. يشتعل ما تبقّى من إهراءات القمح في مرفأ بيروت، ولا أحد يعرف لماذا، ومعها تشتعل دلائل فاقعة على تورط المتورطين بالتفجير، والسلطة تقف الى قمة الأشلاء، تضع يديها في جيوبها وتتفرّج، وتتردد في إطفاء الحريق الغريب الذي هبّ هيك فجأة مع نسمة هواء بيروت العليلة، وذلك قال بحجة «خوفها على سلامة فوج الإطفاء»!! يا سلام على الحنان والرقة، علمًا أن كان بمقدور طوافة للجيش اللبناني إطفاؤها بساعة واحدة من دون أي خطر، ومع ذلك استمر الحريق أيامًا، كمن يريد أن يحرق آخر شعلة أمل في قلوب الأهالي المشلّعي الأمل والقلوب.

خافت الدولة على فوج إطفاء بيروت من حريق بقايا الإهراءات، لكنها لم تخف عليهم على رغم علمها بوجود النيترات قبل شهور من التفجير المروّع، وأرسلتهم للتشلّع بيديها الآثمتين، في حين كان بإمكانها أن ترسل تحذيرًا، وكان لديها الوقت لذلك، وكل الخبراء أثبتوا أن كان لديها نحو 45 دقيقة على الأقل بين الحريق الذي شبّ بداية وتفجّر العنبر 12، كان لديها الوقت لتوجيه الإنذار لإخلاء المرفأ، ولو فعلت لكانت أنقذت 220 ضحية و5000 جريح لكنها لم تفعل سلطة العار تلك. لم تفعلها منظومة الحقد والعمالة التي تكره بيروت وتكره الشعب اللبناني لدرجة القتل المتعمّد، وها هي تراقب حريق الإهراءات، كل يوم شوي كل يوم شوي كي تتخلخل الإهراءات وتنهار من تلقاء ذاتها، وتمحو آثار بصماتهم الواضحة على جريمة العصر تلك.

كلنا نعرف المتورطين، لكن المتورطين والمتهمين في لبنان ينالون ترقية، ومنهم من أصبحوا نوابًا في البرلمان، يناقشون ويشرّعون ويمارسون عهر الوقاحة التي تقدح قدحًا قلوب الأهالي. هذا لبنان وهيدا جوّنا… هيك صار لبنان بعهدة الإحتلال وسلطة الفساد، وطن من دون قلب، من دون رحمة، عار من إنسانيته وكرامته، يراقب صليب الأهالي ويبتسم ساخرًا في سرّه على معاناتهم ونضالهم المرير في الوصول الى العدالة.

كنت أظن، كنا نظن، وكان ظننا من السذاجة بمكان لا يُغتفر أعترف، أن ما بعد 4 آب غير ما قبله تمامًا. كنا نظن أن ما حصل سيقلب كل الموازين في لبنان، سيثور اللبنانيون على حالهم، سيستفيق الضالون من ضياعهم وسينفجرون غضبًا بوجه سلطة القتل تلك. كنت أظن أن صناديق الإقتراع لن تعود وتشهد على إسم واحد من أسماء أولئك المجرمين. وكم خاب ظننا يا الله، نصف الشعب اللبناني أعاد انتخاب جلاديه، يا للعار. أعاد سلطة القتل والجريمة والفساد المتواطئ معها وأدخلها البرلمان. لدينا في البرلمان متواطئون مع قتلة بيروت، لدينا في السلطة مجرمون شلّعوا جو نون والياس الخوري ورالف ملاحي وسحر فارس، وجو بو صعب، وشربل حتي وستيفاني ونجيب حتي، وغيرهم وغيرهم، وها هم مع سطوة سلاح الميليشيا الحاكمة، يمنعون القاضي البيطار من الإستمرار في التحقيقات، وأدخلوا التحقيق في ثلاجة الإنتظار اللامتناهي.

هم يعرفون أننا نعرفهم واحدًا واحدًا، هم ما غيرهم المتورطون في تفجير بيروت، ينظرون إلينا وننظر في قلب عيونهم المتجمّدة في وحشيتها، ولا يكترثون. سكروا من دماء الضحايا، مصاصو الدماء، والآن يسكرون من عذاب الأهالي ومن موت بيروت اليومي على قارعة أشلائها التي لم تيبس بعد. ما زال الدم الحي يبلعط في المرفأ ومحيطه، ما زالت رائحة الضحايا تعبق في المكان، وهم يعلمون ويدعسون في قلوبنا ولا يبالون.

مئات الدلائل توافرت بين أيادي المحقق العدلي، لكنها مجمّدة في محاولات التخوين والتسييس وعهر الكذب والدجل. يطلع وليام نون، أخ الشهيد جو نون في حلقة تلفزيونية، ويفجّر فضائح مروّعة بالجملة، بالجملة، عن تورّط المزيد والمزيد من الأشخاص، ويعلن أسماءهم على الهواء. ولا شيء يتغيّر. لا شيء على الإطلاق. يعاقبون الأهالي بالصمت القاتل، والأهالي يزداد عنادهم وتصميمهم على المواجهة. صار موقع التفجير بيتهم الثاني، صار الشارع منبرهم الدائم، صور الراحلين عنوة تملأ الشارع المقابل للمرفأ، عيونهم تراقب الإهراءات المتهالكة على ما تبقّى فيها من دمائهم وأشلائهم. كم يوم ربما وينهار آخر الهياكل التي تحمل آخر نظرات الذعر عندما تفجّر فيهم أمونيوم الإرهاب العام والإحتلال والتواطؤ على لبنان وشعبه، ولا من يكترث. ما زالت السلطة تقف الى قمة الدمار، تلبس فخامة الموقع، يديها في جيوبها، و”التلاتا الجايي نعلن الحقيقة كاملة”!!

ومذ 4 آب ذاك ولم يأتِ الثلاثاء الموعود، ووليام نون ودافيد ملاحي وبيتر بو صعب، وكل كل الأهالي، يحاربون الطواحين لوحدهم. يجابهون طابور القتلة ولا سلاح لديهم سوى الحقيقة، سوى الألم الدامي، سوى الصراخ والغضب الذي لو تفجّر، لكان دمر فوق رؤوسهم قصورهم المسكونة بالعقارب والأفاعي، وليتهم يفعلون، لكنهم ولاد أصل يلجأون الى القانون قال كي لا تسود شريعة الغاب، مع أننا نعيش في غابة يحكمها الوحوش وكلنا ضحايا مفترضون.

منذ نحو الشهر، إحتفل رفاق الياس خوري بتخرّجهم من المدرسة لينطلقوا الى حياتهم الجامعية، رفضوا أن يحتفلوا لوحدهم، حملوا صورة الياس واحتفلوا معه بينهم، أصلاً لم يتركهم لحظة. لبس الياس قبعة التخرّج وابتسم لهم وكأنه يقول «يا ريتني عن جد معكن، لكن يا رفاقي حتى اللحظة غلب النيترات حقي بالحياة، ودمع إمي وبيي المالح عالق ع وجعن، ناطر تشق السما تـ يطل الرب ويفتعل أعجوبة العدالة بلبنان بلكي إرجع شوف بسمة إمي وبيي»… وأنا أؤمن بأن سينشق حجاب السماء لتشرق شمس العدالة فوق مرفأ بيروت، وسنرى وجوه الإرهاب معلّقة الى مشنقة يوضاس، وبلكي ساعتها، بلكي، تنسحب الأشلاء الى بيتها الأبدي وترتاح في صلاة مسابحنا، وترتاح عيون الأمهات والآباء من دمع القهر الأبدي المتجمّد في مآقيهم… بلكي.

Exit mobile version