أبطال في أرض الزلازل.. هكذا خاطروا بحياتهم!

قصّتهما حفرتْ في أفئدة اللبنانيين وضمائرهم وتحوّلت قضيةَ رأي عام. هما ضحيتان لبنانيتان من ضحايا الزلزال المدمّر الذي ضرب هاتاي التركية وشمال سورية في السادس من شباط.

أُدرج إسمهما في لائحة الضحايا الطويلة التي حصدها الزلزال لمواطنين لبنانيين تواجدوا في تلك الليلة المشؤومة في أنطاكيا وكهرمان مرعش وأمكنة أخرى من ولاية هاتاي التركية.

لائحةٌ قاتمة ضمّت ما يقارب الخمسين شخصاً من لبنان تركوا جحيمهم ليتلقفهم جحيمٌ غافَلَهم في لحظةٍ وإبتلع أرواح بعضهم وأحلامهم ومستقبلاً آمناً كان يراودهم.

وإذا كان سكوت الموت والحِداد لفّ أسماء الضحايا وجثامينهم، فإن قصة الياس ومحمد لم يأسرها الصمت بل وَجدت مَن يجعلها صراخاً علّ صداه يصل إلى الشابين الراقدين تحت الأنقاض. فلأجلهما جنّد المحبون والأهل وأصحاب النخوة كل الجهود للبحث عنهما هناك في إنطاكيا التركية بعيداً عن أي تكليف رسمي لبناني. وبعد مرور أيام على الزلزال كان لا بد من إستنفار كل النفوس الخيّرة وأصحاب الهِمَم في لبنان للتوجه إلى مدينة إنطاكيا التركية لإعادة إطلاق عمليات البحث بين الأنقاض عن إلياس أولاً ومن ثم محمد. وقد كان باسل حبقوق، رفيق إلياس في السفر وزميله في الهرب لحظة وقوع الزلزال، هو المرشد الذي قاد خطوات فريق الإنقاذ اللبناني نحو مكان وجود إلياس في الفندق المُنْهار.

إلياس وباسل صديقان وزميلان في العمل، يملكان حافلات للرحلات السياحية داخل لبنان وخارجه. انطلقا يوم الأحد في الخامس من شباط الى أضنة ومنها إلى إنطاكيا لشراء قطع غيار لحافلاتهما، ولم يدركا أنهما كانا على موعد مع القدَر الصاعق. ضرب «زلزال القرن» المنطقةَ فانقطعت أخبارهما كلياً عن الأهل، لكن زياد خيرالله وهو صاحب وكالة فلاديمير للسفر والرحلات وصديق الشابين إستطاع التواصل مع شاب ثالث قريب منهما أوصلهما إلى الفندق. ووضع زياد قضية الشابين تحت أضواء الإعلام فبات لبنان يترقب أخبارهما ويتابع عن كثب عمليات الإنقاذ.

لكن الفندق كان مدمَّراً. وحتى يوم الأربعاء اي بعد نحو يومين من الزلزال لم يكن من الممكن القيام بأي عمل. إلا أن شباناً من المنطقة كانوا يواصلون البحث، وحين سمعوا صوت باسل يستغيث إستعانوا بشبان أكراد لمساعدتهم في الحفر وإستطاعوا إنتشاله حياً من بين ركام الفندق. في هذا الوقت تم التواصل مع السفارة اللبنانية في أنقرة لإعلامها بوجود لبنانيين تحت الأنقاض، وإثر ذلك تم إرسال فريق من لبنان للمساعدة في عمليات الإغاثة، لكن الدولة التركية وجهت الفريق نحو منطقة بعيدة جداً عن موقع وجود اللبنانيين المطمورين في إنطاكيا فلم يستطع تقديم العون لهم. وبعده أُبلغ الجميع أن الدولة التركية أوقفت عمليات البحث في المكان لعدم ثبات وجود ناجين تحت أنقاض فندق أوزهان…

يروي زياد خيرالله لـ«الراي» أنه حين قرر مع شاب آخر الذهاب بنفسه إلى إنطاكيا للبحث عن إلياس وأطلق من خلال صفحاته على مواقع التواصل حملة واسعة من أجل المشاركة في الصلا. «التقينا بباسل وتوجهنا إلى إنطاكيا في ظلّ برد قارس عند الفجر. هناك رأينا رجلاً سورياً يحمل إبنه الميت الملفوف ببطانية صوفية. كان موجوداً في الفندق لحظة إنهياره مع زوجته وأولاده، إستطاع أن ينجو مع ولدين صغيرين، لكن الكبيرين في الغرفة الملاصقة لم تُكتب لهما النجاة. سحب الصبي لكنه لم يعرف مصير الإبنة لين قدور. وأصرّ على أنه كان يَسمع أصواتاً من تحت الركام لناجين. كان المشهد مؤلماً جداً لكننا إستمدينا القوة للسير نحو الفندق وكنا نعرف بالضبط أين غرفة إلياس التي غادرها هرباً مع باسل أثناء الزلزال. لكننا كنا شبه متأكدين من أنه لم ينجُ، ولكن كان هدفنا أن نسحب جثمانه ليُدفن في بلده. هناك عرفنا بوجود شاب لبناني آخر تحت الأنقاض هو محمد وكان موجوداً لشراء محابس الخطبة له ولخطيبته، وكان أخاه قد قدم من ألمانيا للمشاركة في محاولات إنقاذه وكذلك إبن عمه».

زياد إتصل بمركز «آفاد» فأرسلوا فرقاً للبحث سرعان ما تبين لها عدم وجود أي أثَر للحياة في الفندق المهدّم فانسحبتْ. «عند وصول فرقة أخيرة للبحث حصلت هزة شديدة ليلتها فاضطرت كل الفرق للإنسحاب لا سيما أن المبنى صعب جداً والحَفْر فيه خطر. بعد ستة أيام صار واضحاً أن العمل يزداد خطورةً مع توالي الهزات المرتدّة وتخلخل المبنى المنهار، ولم تعد أيٌّ من الفرق مستعدّة للمخاطرة من أجل البحث عن ناجين أو إستخراج الجثامين».

ويستعيد أبو حيدر وقائع الأيام السود فيقول: «طوال هذه الأيام الأربعة كنا في العراء في عزّ البرد، لا مياه جارية ولا حَمّامات. كنا نأكل من المساعدات التي تقدّمها الجمعيات هناك وننام في سيارة أحد الشباب وكانت الهزات الأرضية تتوالى مصيبةً الجميع بالرعب في أجواء كأنها نهاية العالم. أصرت عليّ عائلتي للعودة، لكنني لم أشأ أن أترك الساحة لأنه إذا تم إخراج جثث عليّ التعرف على جثة إلياس من بينها فلا تُدفن في الأرض التركية بل تعاد إلى بلدها. وحينها طالَبَني والد الصبي السوري أن أتابع الضغطَ الإعلامي كما فعلتُ سابقاً وأن أطلق نداء إستغاثة علّهم يرسلون فرقاً جديدة لتستمر أعمال البحث. أدركتُ حينها أن التخلي عن قضية الشابين محمد وإلياس والطفلة السورية يعني بقاءَ أهلهم في حالٍ من الحسرة الدائمة. حينها توجهتُ بنداء إلى كل الناس للمساعدة، وأعرب شبان كثر عن رغبتهم بالمشاركة. ودعوتُ شركات السفر لتأمين بطاقات لكل المستعدين للمساعدة، كما وجّهتُ نداء إلى الدفاع المدني والصليب الأحمر لإرسال متطوّعين. ونَقَلَ موقع بنت جبيل الدعوة إلى يوسف الملاح وهو متطوع في الدفاع المدني معروف بجرأته وإندفاعه ونخوته فلبّى مع 13 شاباً النداء رغم المخاطر الشديدة وإنتقلوا إلى تركيا على مسؤوليتهم الخاصة».

زياد عاد إلى بيروت وكان همّه السعي لإعادة الجثامين إلى لبنان رغم صعوبة المعاملات وتكلفة نقل الجثامين رغم أن التوجه العام كان أن الضحايا هم شهداء ويجب أن يُدفنوا حيث هم.

يوسف الملاح لم يتباطأ في تلبية نداء الإستغاثة وقد روى لـ «الراي» رحلة البطولة قائلاً: «نحن من مدرسة الدفاع المدني اللبناني، مدرسة الإنسانية ويدنا تمتدّ إلى كل يد ممدودة من تحت الأنقاض. حين وَصَلَني النداء عبر موقع»بنت جبيل«إتصلتُ بالمعنيين ولا سيما رئيس هيئة إدارة الكوارث فتجاوبوا معي، لكن الإجراءات كانت بحاجة إلى وقت ولذا أطلقتُ صرخةً لمَن يودّ مرافقتي من الشباب وجَمَعْنا أغراضنا بعد أربعة أيام من عودتنا من تركيا. الأب جوزف وبمبادرة شخصية منه دفع تكلفة تذاكر السفر. وحين وصلْنا، إستغرب الأتراك كيف جئنا بمبادرةٍ فردية للمساعدة. وبالتنسيق مع السفير اللبناني في تركيا، أمّنوا لنا طوافات للوصول بسرعة إلى مكان الفندق المهدّم».

ويروي الملاح أنه «عندما وصلْنا بدأنا بالتعريف عن أنفسنا لأهل الضحايا الأتراك وقدّمنا لهم واجب العزاء ووضعنا أنفسنا بتصرفهم، فلقي تصرفنا تجاوباً وإحتراماً كبيريْن. باسل حبقوق كان مفتاح الوصول إلى إلياس. طلبتُ منه العودة معي إلى الحفرة التي أُنقذ منها، فلم يَخَفْ أو يَتَرَدَّد وقال إنه جاهز لبذل كل مساعدة في سبيل إيجاد صديقه رغم إلحاح أهله عليه بالعودة. جَعَلْتُه يدلّني على البقعة التي كان موجوداً فيها، وشرح لي كيف كان رأسه إلى أسفل وقدماه إلى فوق، وسألتُه عن صوت إلياس الذي كان يصل إليه وكم يقدّر بُعْدَ الصوت عنه، وهكذا إستطعتُ تكوينَ فكرةٍ أين يمكن أن يتواجد. أدخلتُ شاباً في حفرةٍ لا يتعدى إرتفاعها فوق رأسه 20 سنتيمتراً وبدأ يزيل الحجارة الصغيرة بواسطة دلو. وبعد ساعتين ونصف ساعة إستبدلتُه بآخَر إلى أن وصل إلى حقيبة يدٍ وجدنا فيها هوية إلياس ومبلغاً من المال فأكملنا الحَفْر حتى وجدنا الجثة وأخرجناها».

يكمل الملاح الرواية الحزينة التي يرفض أن يصفها بـ «البطولية» ويصرّ على القول إنها إنسانية بحت قائلاً: «جاءني والد الطفلة السورية المدفونة تحت الأنقاض وأخبرَني كيف حفر نفقاً للخروج مع عائلته وطفله الرضيع بواسطة مسكة الباب، لكنه لم يستطع الوصول إلى إبنته لين، وروى لي أنه تَوَسَّلَ لأكثر من عشرين فريقاً لسحْبها لكنهم قالوا إن من المستحيل الوصول إليها. أرسلتُ شابين، لكنهما وبعد بحث مضنٍ وخطِر لم يجدا الطفلة. ظل الوالد جالساً بجانبي فطلبتُ من أحد الشبان أن يجبر بخاطره ويقوم بجولة بحث أخرى على ضوء الهاتف رافَقَه بها الوالد. وهنا كانت المفاجأة حيث أن الإثنين وجدا الطفلة المتوفاة وقمنا بسحب الجثة. طلبتُ من الوالد ألا يَبْكي لأننا نستمدّ قوتنا منه فحمل إبنته ورافقناه المشوارَ إلى الفندق».

لم يَخْشَ الفريقُ اللبناني المتطوع التحذيرات من عدم الإستمرار في البحث في المبنى المعرّض للإنهيار في أي لحظة، إذ كان لا بد من إعادة جثماني الياس ومحمد إلى الوطن وإلا «فالأوْلى بنا أن نعيد بطاقاتنا» يقول الملاح، مضيفاً «لأن إلياس ومحمد هما عنوان للموزاييك اللبناني، دمُهما إمتزج وإجتمعا تحت أرضٍ واحدة ولا بد من إعادتهما معاً إلى تراب الوطن».

خلف الستائر التي إستخدموها ليحجبوا عملهم عن الأنظار، عمل الفريق 36 ساعة في حَفْر الأنفاق للوصول إلى الطبقة الأولى حيث كانت غرفة محمد والتي إنحدرت بفعل الزلزال إلى مستوى طابقين تحت الأرض.

«حين سألتُ شقيق محمد إذا كان الشاب نومه ثقيلاً، أخبرني أن لا شيء يوقظه. عرفتُ حينها أنه توفي في سريره. لذلك وضعنا خريطة للعمل وقسمنا المنطقة أربع نقاط لنجد بعدها شرشف السرير المبقع بالدماء وقطعة من زنده ومن ثم هاتفه وصورته. إستغرقنا الأمر 18 ساعة لنتمكن من إخراجه في ظل خطر إنهيار المبنى مع تَساقُط الحجارة في شكل مستمر. غمره أحد الشباب وزحف به نحو الخارج ليعيش الجميع لحظةً مؤثّرةً مليئة بأسمى معاني النخوة والإنسانية والتضامن رغم الحزن الكبير. ووجدتُ أن دوْري الآن أن أهدئ النفوس وأقوي شقيق محمد ليتحمل الفاجعةَ بإيمان وصبر».

… بجهود زياد خيرالله وشباب الدفاع المدني وسفير لبنان في تركيا عاد إلياس ومحمد بنعشيهما إلى تراب لبنان ليحتضن أحلامهما التي إنكسرت في بداياتها. ورغم إصرار أهلهما على تقديم الشكر للمتطوعين فإن يوسف الملاح إختصر الإجابة بقوله: «سمعنا صوتَ لبنان ينادينا من بعيد فلم نستطع إلا تلبية النداء وكنا مستعدّين للذهاب مهما كلّفَنا الأمر على الصعيد الشخصي. فلبنان قد يكون فقيراً بإمكاناته لكنه غنيّ بطاقاته الإنسانية. ولبنان الجريح حين رأى ما أصاب سورية وتركيا سحب الإبرة التي كان يخيط بها جراحه ليخيّط جروح البلدين المنكوبيْن».

وفي الختام أبى يوسف الملاح إلا أن يشكر كل الذين ساعدوا في إنجاح هذه المهمة في لبنان وتركيا فرداً فرداً، وبادله الشكر المئات الذين زحفوا إلى مطار بيروت لإستقبال الفريق العائد إلى أرض الوطن.

Exit mobile version