أنا وصاحب الانتصار

يريدني أن أؤجّل كافّة أحلامي وهمومي ومشاغلي إلى أن ينتهي من حروبه، ويحقّق الإنتصار.

ليس أن أؤجّلها إلى ما بعد هزيمة أو هزيمتين بل إلى أن ينتصر.

يريدني أن أؤجّل نمو طفلي الرضيع، وأن أدعه بلا شيء، بلا علم، بلا لبس، وأن أتركه لكل ما قد ينتج عن هذا التأجيل من موت وجرائم وجهل..

وكيف لي أن أشرح لطفل رضيع معنى الانتظار والصبر، وكيف أقنعه بأن النصر آتٍ، وهو الذي يهزمه تأخر قنينة الحليب؟!

يريدني أن أدع ولدي الذي ما عاد يذهب إلى المدرسة، وقد غادر نصف معلميها البلاد، وأن أتركه بلا غد، وأن أجلس لأحدّثه عن الانتصارات، وأنا الذي ما عرفتها من قبل، ولا عرفها أبي، ولا أبوه من قبلي، ولم يخبرني عن ذلك سوى خطابات الوهم وكتب التاريخ التي لا أثق بها.

يريدني أن أسقط حمل زوجتي، وأن أطالبها بتأجيل الولادة إلى ما بعد الانتصار.. وهي التي تغالب سن اليأس لئلا تهزمها، وقد قاتلت عبر الطب والدعاء والبدائل الشعبية لتحصل على طفل يطالبنا بإسقاطه لأن الانتصار أحق منه بالانتظار.

يريدني أن أقنع أشجار حديقتي وحقلي وبساتيني بضرورة التوقف عن حمل الثمر، وبالصبر على القصف والحرائق التي تلتهمها، كرمى لعين حروبه.

يريدني أن أتغاضى عن انقطاع الكهرباء والماء والأمل، وعن طريق ما عادت تصلح لعجلات السيارات، وعن مشفى بلا أسرة، ولا طبيب، ولا ممرض، ولا أدوية، لكنه مشفى بآلاف المرضى الذين علي إقناعهم بأفضلية النصر على الدواء والحياة.

يريدني أن أتحمّل صداعي، وأن أتحدث إلى معدتي الخاوية، وإلى كل الذين يسألونني عن موعد انتهاء الحرب، وأن أخبرهم أن النصر سيعوضنا عن كل جوع وخسارة.

يريدني أن أقتنع أن الحياة ستكون أفضل بتغطية السماء بغبار القصف، وباستبدال طيور الورور والسنونو وعصافير الدوري بالمسيرات والصواريخ والقذائف.

يريدني أن أدفن أهلي ومن أحب؛ وأنا أهتف وأصفق للحرب.

يريدني أن أتوقّف عن القراءة والكتابة والعزف والغناء والرقص والفرح والحب والجنس، وأن أتفرغ للحزن والبكاء ودفن الموتى، وإزالة ركام البيوت المدمرة، ومتابعة نشرات الأخبار والخبر العاجل، والانشغال بعد الشهداء والجرحى، والدعاء مساء للانتصار.

يريدني أن أخرج لاستقباله وقد عاد بعُشر من خرج بهم إلى القتال، وقد أقمت لهم قوس نصر واحتفالاً أمجّد فيه قدرته على الحفاظ على حياة من أخطأته الحرب، لأنال ابتسامته ورضاه..

يريدني ألا أكون إذا الانتصار لم يكن.

وأنا الخائف من الانتصارات لأني ما عرفتها ولا عشتها ولا جرّبتها وقد رأيت نتائجها في كل ساحات الحروب.

وأنا الذي قرأت كتباً وكتباً عن الحرب.

فسبحانه ما أتفه عقله!

زر الذهاب إلى الأعلى