ينظر المجتمع الدولي إلى الجيش اللبناني على أنّه «الركيزة الأساس للاستقرار في لبنان»، ويشكّل هذا الاستقرار أولويةً للخارج لأسباب ومصالح عدة، فانزلاق البلد إلى الفوضى الأمنية الشاملة يؤرق دولاً عربية وغربية، لذلك تدعم هذه الدول المؤسسة العسكرية لكي لا تنهار وتتمكّن من ضبط الأمن ومنع التفلُّت الكامل. بالتوازي مع هذه الإرادة الخارجية، تجهد قيادة الجيش للحفاظ على تماسك المؤسسة من خلال إيلاء الأولوية لمساعدة العسكريين ودعمهم، عبر خطط مالية توظّف كلّ المساعدات المقدّمة من الدول والأفراد، للعسكريين، مالياً وغذائياً وطبياً واستشفائياً. فمن دون هذه المساعدات وحُسن إدارتها، لما تمكّن العسكريون من الصمود.
منذ انفجار الأزمة المالية – الاقتصادية أواخر العام 2019، بدأت مؤسسات الدولة وإداراتها بالتقهقر، حتى انعدمت انتاجية البعض منها في فتراتٍ عدة، نتيجة الإضرابات بسبب انعدام قيمة الرواتب. ولا تزال المساعدات والإضافات إلى رواتب وأجور الموظفين دون الحد الأدنى الذي يحتاجون إليه شهرياً للعيش بكرامة. وعلى مستوى الجيش، كان «التخلّي» الفاضح من الدولة، فلم تبذل الحكومة أي جهد لمساعدة المؤسسة، على رغم تأكيد جميع المسؤولين أهمية الحفاظ على الجيش حفاظاً على البلد.
لكن نتيجةً للإرادة الدولية وعمل قائد الجيش، تمكّنت المؤسسة العسكرية من الصمود وتخطّي أصعب المطبات والاستحقاقات منذ 17 تشرين الأول 2019. وبعد نحو ثلاث سنوات ونصف السنة يتعاظم الانهيار بدلاً من أن تُردم فجوة الأزمة، خصوصاً مع شغور موقع رئاسة الجمهورية وفي ظلّ حكومة تصريف أعمال. لذلك هناك تخوُّف دائم من تفلُّت الوضع عند أي «خضة» إضافية أو لحظة «الانفجار الاجتماعي الكبير»، مع الخشية من أن يُطاول هذا الانهيار الجيش اللبناني مع ما يرتّبه ذلك من تفكيك للدولة والبلد.
إلّا أنّ قيادة الجيش، وعلى رغم قلقها الأساس لجهة الأمن الاجتماعي، لا تتخوّف من انهيار المؤسسة العسكرية، بل تشير المعطيات إلى عكس ذلك، فالمساعدات مستمرّة، وعمل القيادة متواصل لتأمين «اكتفاء ذاتي» على مستويات عدة، فضلاً عن أنّ الآلاف من الذين هربوا من الخدمة أو قدّموا طلبات تسريح عادوا والتحقوا بمؤسستهم، إضافةً إلى عامل لافت يتمثّل بتقديم 25 ألف طلب تطويع في الجيش. وكان الاختبار الفعلي لخطر انهيار الجيش، خلال الانتخابات النيابية في أيار 2021، حين راهن كثيرون على أنّ العسكريين سيتخلّفون عن الالتزام بمهمتهم، فيما كانت جهوزية الجيش بنسبة مئة في المئة وانتشر جميع العسكريين على الأراضي اللبنانية كلّها. ومنذ بداية الأزمة لم يشهد الجيش أي «تمرُّد» على أوامر القيادة.
ويأتي هذا الالتزام انطلاقاً من معرفة العسكريين بالجهد الذي تبذله القيادة لدعمهم، من تأمين الطبابة لجميع العسكريين في الخدمة والمتقاعدين وعائلاتهم، إلى تأمين النقل لجميع العسكريين عبر الباصات، إضافةً إلى مساعدة غذائية شهرية بسعرٍ رمزي. وبالتوازي، يعمل الجيش على «الاكتفاء الذاتي»، من خلال الزراعة وبعض الورش من نجارة ومعمل لمواد التنظيف. إلى ذلك تشكّل المساعدة المالية لجميع عديد الجيش بمختلف الرتب، عاملاً أساساً للصمود. وتتمثّل هذه المساعدة بمئة دولار شهرياً، ممنوحة من دولة قطر، منذ 6 أشهر، وتستمرّ إلى سنة، على أن تتوقف أو تُجمّد، ما إن يدخل مشروع الدعم الأميركي المالي لرواتب الجيش وقوى الأمن الداخلي حيز التنفيذ. وإذ ستستمرّ المساعدة المالية للعسكريين أقلّه لستة أشهر، إلّا أنّهم لن يتقاضوا مئتي دولار من الدوحة وواشنطن في الوقت نفسه، بل مئة دولار من إحدى العاصمتين.
أمّا على مستوى المساعدات الانسانية والغذائية والطبية الدولية للجيش، فتكثفت إثر مؤتمر الدعم الدولي في حزيران 2021، ثمّ انخفضت وتيرتها تدريجياً، ولم يعد الجيش يتلقّى مساعدات شهرياً عبر طائرات محمّلة بالمواد الغذائية والطبية، بل باتت مقتصرة على بعض الدول، وخلال فترات متباعدة. وإذ كانت هذه المساعدات توزّع على العسكريين مجاناً، استعاض عنها الجيش، بعد تراجع وتيرتها، بشراء مواد غذائية بأسعار منخفضة ومن خلال المساعدات التي يقدّمها لبنانيون مقيمون ومغتربون، لتأمين مساعدة غذائية شهرية لكلّ عسكري بقيمة مادية زهيدة جداً مقارنةً بسعرها الفعلي في السوق. وتدخل كلّ مساعدة مقدّمة للجيش إلى خزينة المؤسسة، ويحصل مقدّمها على إيصال يثبت هذه المساعدة، وتُحوّل إلى وحدة معينة بحسب طلب مقدّمها أو إلى الطبابة.
أمّا حاجات الجيش الآن فتتمثّل بالمساعدة المالية والمحروقات والطبابة. وعلى صعيد المساعدات العسكرية من آليات وعتاد، تُشكّل الولايات المتحدة المانح الأكبر للجيش بنسبة 90 في المئة. ولن تتأثر هذه المساعدات العسكرية أو تتراجع مع بدء دفع المساعدة الأميركية المالية. ولا يواجه الجيش أي مشكلة على الصعيد العسكري، فهو يملك ما يكفي من السلاح الذي يحتاج إليه ويتلاءم مع بيئته وطبيعته.
ويبدو أنّ العامل «التفجيري» الداخلي من خلال الخلاف بين وزير الدفاع وقائد الجيش تجري فكفكته أيضاً، من خلال اللقاء والتواصل بين الجانبين لحلحة كلّ الملفات وتسيير شؤون المؤسسة العسكرية، وأبرز تجليات تطوّر هذه العلاقة إلى الأفضل، التعيينات الأخيرة لأعضاء المحكمة العسكرية.