الأحزاب التي تتكون منها الجماعة الحاكمة تعيش أزمة وجودية بالفعل على رغم استمرارها في السيطرة على السلطة وعلى رغم قدرتها موقتاً على اعادة تجديد أدوارها من خلال الانتخابات النيابية. وهذا بسبب حالة العقم الفكري الذي تعيشه كما بسبب العجز الثابت لديها جميعاً عن ابتكار الحلول والمخارج الحقيقية للنهوض بالبلد من أزماته.
العجز ثابت بدليل انكباب تلك الأحزاب على استعادة كل أدوات الماضي البالية في العمل السياسي وفي خوض غمار الانتخابات. ومن تلك الأدوات “التقليدية” استخدام العصبيات الطائفية، والتخويف من الآخر، والزبائنية التي تفعل فعلها في الظروف المعيشية الحالية، فضلاً عن المبارزات البينيّة التي توهم الناخبين بأن الخيارات تنحصر بين مرشحي الأحزاب الحاكمة. والعقم ثابت بالنظر الى الضحالة الفكرية التي طبعت محاولات تلك الأحزاب إعادة صياغة ذواتها على إثر الصدمة التي عاشتها بعد خريف العام 2019.
طبعاً لا تقتصر عبارة الأحزاب الحاكمة على تلك المشاركة في الحكومة الحالية أو السابقة أو التي سبقتها فحسب وإنما تشمل جميع الأحزاب التي تحظى بتمثيل في المجالس النيابية المتعاقبة منذ اتفاق الطائف ومنذ العام ٢٠٠٥. وللقائلين بنوع من المفاضلة بين تلك الأحزاب تكفي الاشارة الى حالتي العجز والعقم الثابتتين واللتين تشترك في الإصابة بهما الاحزاب جميعًا على اختلافها ولا جدوى ولا أمل من البحث في تلك المفاضلة لأنها إنما تفاقم العقم وتبعد الأمل بالخروج من التأزم المستمر والذي لن ينتهي في الأمد المنظور.
الأزمة الحقيقية التي نعيشها راهناً هي أزمة فكرية بالدرجة الاولى. وفي المراحل المماثلة التي تمر بها الأوطان تولد الأفكار الكبرى وتولد معها الحركات السياسية المبنية على تلك الأفكار. أما عندنا فلم ينجح حتى الآن أي من القوى والجماعات السياسية القائمة أو تلك التي تكونت في خضم التظاهرات وما تلاها، في خلق آمال حقيقية مبنية على فكر جديد بكل معنى الكلمة.
كل النقاشات والطروحات التي ظهرت في السنتين الماضيتين لدى أحزاب السلطة أو عند من يحاولون تكوين معارضة، كانت استعادة لأفكار مطروحة سابقاً وسبق أن شكلت مواضيع للنقاش والخلاف وحتى الصراع في العقود الماضية. ومن تلك الطروحات التي تتكرر وإن بمسميات جديدة، اللامركزية الموسعة الإدارية والمالية أو الفيديرالية المقنعة، وإلغاء الطائفية السياسية، والحياد، والجدليات الأبدية حول السيادة التي يراها كلٌ من منظاره …
الجيل الجديد، الذي لا يشمل شريحة عمرية معينة شابة بالضرورة، بل يشمل معظم هذه الشريحة ومعظم اللبنانيين المقتنعين بعجز القوى السياسية الحاكمة عن الانقاذ وبناء لبنان الجديد.
هذا الجيل الجديد لم يعد مقتنعاً بأن قضية لبنان الوحيدة كما يصورها فريق معين، والتي ينبغي رهن حياته ومستقبله لأجلها والتي إذا حُلّت سوف يصل الى مبتغاه، هي الصراع مع العدو وتحرير الأرض من الاحتلال، على أهمية ذلك. وهو ليس مقتنعاً البتة ومن باب أولى بأن قضية لبنان الوحيدة كما يصورها البعض الآخر، والتي اذا ما عولجت تنتهي الأزمات والصراعات الوجودية وصراعات على السلطة وعلى موارد الدولة، هي في حيازة فريق أو أكثر السلاح خارج الدولة.
رغم أهمية هذه القضية وتلك، فإن الفرقاء المنادين بها إنما يتمسكون بها لتبرير الوجود فقط وكل منهم لا يملك حلاً حقيقياً لبناء وطن يتسع للجميع ويلتف حوله الجميع.
الجيل الجديد منفتح على الفكر الجديد الذي سوف يولد ولا بد له من أن يولد في المقبل من الأيام. وحينها سيكون على الاحزاب العاجزة والعقيمة أن تتجدد فكرياً أو تندثر، أن تندمج أو تخضع للتصفية، كما حال المصارف..