“الخارجية”: مخالفات ومحسوبيات وتنفيعات

لسنا هنا بصدد تذكّر استخدام وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، لبريدها الإلكتروني الخاص في مراسلات رسمية. وهو ما قضى، بحسب كثيرين، على فرصها الرئاسية في 2016. ولا نحن أمام مشهد استقالة وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا بريفرمان، في تشرين الأول الماضي لإرسالها مستنداً رسمياً من بريدها الإلكتروني الشخصي. لا بل نتكلّم عن تعميم جديد مصدره وزارة الخارجية اللبنانية: حصر إرسال البرقيات السياسية ذات المحتوى الحساس على عنوانين لبريدين إلكترونيين شخصيين. ومن هنا ننطلق في جولة جديدة خلف كواليس الوزارة.

عطفاً على التعميم الصادر في 2021/09/15، صدر آخر بالرقم 16/أ.ع في 2023/01/27 ليحصر إرسال البرقيات بعنوانين شخصيين: الأول، يعود إلى الوزير عبدالله بو حبيب ([email protected])، والثاني للأمين العام للوزارة، السفير هاني شميطلي ([email protected]). أما البرقيات السياسية الأخرى ذات الطابع العادي، فتُرسَل إلى الوزارة عبر الرموز، أسوة بتلك العائدة لسائر المواضيع المتنوعة الأخرى. تعميم أقلّ ما يقال فيه، برأي مصادر مطّلعة، إنه «كتلة مغالطات». فماذا وراءه؟

أبعد من التعميم

التعميم يحمل الترقيم «أ.ع» (أمين عام) وتوقيع الوزير، ما يعني أن الأول أعدّ والثاني وقّع. وهذا يخالف الإجراءات الاعتيادية. كذلك، وخلافاً للقانون وضرورات السرية المعتمدة في الوزارة، يُمنع اعتماد عناوين إلكترونية شخصية، وهذا ما أكّد عليه الأمين العام نفسه في تعميم سابق. فهل من تفسير؟ من جهّتها، تتساءل المصادر عن مصير هذه البرقيات السرية وغير السرية في حال تنحّى الأمين العام عن منصبه لسبب أو لآخر. فهل يسلّمها للوزارة أم يحتفظ بها في بريده الخاص؟ وكذا الحال بالنسبة للوزير. ثم ما الفائدة من بريد الوزارة الرسمي الذي كلّف ما كلّف، والعناوين التابعة لكل دبلوماسي وفقاً لعملية الربط، إن كان سيتم استخدام العناوين الشخصية؟

وتكثر الوشوشات. البعض يرى في التعميم محاولة من الوزير والأمين العام لإخفاء معلومات سرية عن المرجعيات العليا أو استخدام المعلومات باستنسابية أو بشكل مخالف للقانون. في حين يعتبرها البعض الآخر وسيلة لحصر مواضيع البيع والشراء في البرقيات ومحتواها تبعاً لما يرياه مناسباً. إذ، بدلاً من أن تتلقى المرجعيات البرقيات بشكل منهجي، يصبح الحصول عليها مرتبطاً بـ»تسجيل نقاط» من الوزير وأمينه العام. وهكذا لا يعود مستغرباً أن يثير التعميم امتعاض عدد غير قليل من السفراء في الخارج.

فوضى طائفية

مسلسل المخالفات والقرارات الجدلية في الوزارة متواصل. ولا ضير من التذكير السريع بالإجحاف الحاصل بحق دبلوماسيي الإدارة مقارنة مع دبلوماسيي الخارج. كما بالتعيينات العشوائية والتنفيعات لأهداف سياسية واسترضاء لبعض الجهات. ناهيك بتفرّد أصحاب الشأن في الوزارة باتّخاذ القرارات. ونكمل.

مصدر متابع يشير إلى تحوّل الأمين العام إلى أمين على طائفة دون سواها. فهو يقوم بتحضير مهمات لدبلوماسيين من تلك الطائفة مطعّمة بدبلوماسيين آخرين لـ»تضييع الشنكاش». ويتساءل: «هل كانت زيارة الوزير والأمين العام إلى إحدى المرجعيات السياسية الأسبوع الماضي بهدف تسويق مشروع تشكيلات سفراء من لون طائفي معيّن للحصول على غطاء «طائفي» من تلك المرجعية؟». وهذا مثال عن حالة مشابهة. فمن المتوقّع أن يحلّ أحد السفراء السنّة مكان السفير الماروني في البحرين. لكن المنطق يفرض استبدال سفير سنّي في بعثة أخرى بآخر ماروني. فهل سيحصل ذلك أم أن الغاية هي استرضاء الأمين العام لأبناء طائفته تأميناً على بقائه في منصبه؟

على الضفة الأخرى، تمّ إرسال السفير الماروني، غادي خوري، إلى أثينا. مع العلم أن القائم بالأعمال هناك ما زال موجوداً في غياب أي أعمال تُذكر، ما يتناقض مع مزاعم الوزارة بأن السفير في أثينا يجب أن يكون أرثوذكسياً. بالمقابل، ورغم انتهاء مهمة السفير السنّي في ملبورن، زياد عيتاني، منذ أربع سنوات، إلّا أنه ما زال موجوداً في الخارج ويتقاضى راتبه بحجة عدم توافر سفير سني آخر ليحلّ مكانه. فلِمَ لم يُستبدَل بسفير من طائفة أخرى على غرار ما حصل في أثينا؟

أي ثقافة تسود؟

«المجموعة المتحكّمة بوزارة الخارجية نشرت ثقافة الفساد. هي قسّمت السلك إلى محظيّين وغير محظيّين. وقضت على بذور التغيير مقزّمة دور الدبلوماسيين. علّمت هؤلاء الخضوع أمام السياسيين. وجعلت من الاستعطاف والتزلّف والمنافسة غير السويّة طريقاً لتحقيق الهدف». هذا نزر يسير مما يسمعه السائل مِن إجابات تصدر عمّن يدورون في فلك الوزارة. لكن هناك ما هو أدهى. فالحديث يتعاظم عن عملية تحايل واسعة تجري داخل الوزارة لإضفاء الطابع القانوني على عدة مهمات اضطلع بها مدير مكتب الوزير في الخارج. والهدف ليس أكثر من تقاضي بدلات عن تلك المهمات بالدولار الأميركي، في حين أن زملاء آخرين في الإدارة، والمحرومين من نعمة المهمات أصلاً، ما زالوا يتقاضون رواتبهم بالليرة.

مصادر أخرى تتحدّث بدورها عن صفقة تُحضَّر بين مرجع سياسي ومسؤول رفيع، بحيث يقوم وزراء مقرّبون من المرجع بحضور جلسات الحكومة لقاء تمرير مشروع تشكيلات يكون للأول فيها حصة الأسد. والعين على سفارة لبنان في واشنطن. هذا وقامت الوزارة بإرسال دبلوماسي من أقرباء مسؤول العلاقات الدولية في أحد التيارات السياسية إلى روما في مهمة مفتوحة كدبلوماسي ثالث في السفارة، رغم غياب الاعتمادات كما يُشاع. هذا ولم نأتِ بعد على طريقة تعيين سفيرة في بعثة لبنان في نيويورك، بعد بلوغ سلفها سن التقاعد، ذي «انتماء سياسي واضح وشخصية جدلية»، بحسب المتابعين.

لقاءات متوتّرة

من ناحيته، لا تزال ممارسات الوزير بو حبيب تثير حفيظة المراقبين. فـ»التوتّر الملحوظ» الذي طغى على اجتماعاته الأخيرة مع سفراء دول الخارج كان ظاهراً للعيان. وتلفت المعلومات إلى إحدى تلك الواقعات. فخلال لقائه مؤخّراً مع سفراء الدول الاسكندينافية وسويسرا، بحضور الأمين العام ومدير الشؤون السياسية في الوزارة، تطرّق إلى إيقاف الدعم المالي عن اللاجئين السوريين معرباً عن عدم احتياج لبنان لتلك الأموال (مع علم المعنيين الذي يقارب اليقين بأن اللاجئين باقون حالياً بدعم أو بدونه). فما كان من سفيرة إحدى تلك الدول إلّا أن سألت إن كان عليها مخاطبة حكومتها لوقف إرسال الدعم المالي ليأتيها الردّ انفعالياً من الوزير بعدم مقاطعة كلامه.

وفي اجتماع آخر، استدعى بو حبيب سفير ألمانيا أندرياس كيندل مشترطاً حضور ثاني البعثة (القائم بالأعمال). السفير سمع من الوزير كلاماً حاد اللهجة مفاده عدم مسؤولية لبنان عن سلامته في حال تعرّضه للخطر في مكان عام. وهو ما نتج عنه استدعاء سفير لبنان في برلين، مصطفى أديب، من قِبَل الخارجية الألمانية. ووصل الأمر إلى محاولة مسؤول لبناني رفيع التدخّل للتهدئة مع السفير الألماني.

جوازات دبلوماسية

وإلى «توزيع» الجوازات الدبلوماسية في الخارجية. فقد أشارت مصادر إلى منح خطيب إحدى الدبلوماسيات جوازاً دبلوماسياً في وقت لا يُمنح هذا المستند إلّا للزوج بحسب القانون. أما عن كيفية حصول ذلك، فتقول المصادر: «من خلال شهادة زواج ديني غير منفّذ في سجلات النفوس، وليس وثيقة زواج قانونية صادرة عن دوائر النفوس».

ثم هناك الموافقة على إصدار جوازات سفر دبلوماسية بطلب من رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، القاضي كلود كرم، لأفراد الهيئة ورئيسها حيث «سيمثّلون الدولة اللبنانية رسمياً في جميع المؤتمرات والاجتماعات الدولية ذات الصلة بموضوع مكافحة الفساد». وهذا يطرح بدوره العديد من التساؤلات لأن ما يُمنح هنا هو جواز خدمة محدّد زمنياً وليس جوازاً دبلوماسياً. فبموجب أي سند قانوني يُمنح لقب «سفير لبنان» لأي شخص كان، وهل يجوز عدم تحديد الدولة أو البعثة التي سيقوم بتمثيل بلده فيها؟ والأكثر غرابة، بحسب المصادر نفسها، هو أن الجواز الدبلوماسي يُمنح بقانون وليس بطلبٍ من قاضٍ وهو ما أكّد عليه المرسوم رقم 4780 الصادر عام 1960. فهل من إجابات مقنعة أو تبقى الارتجالية سيّدة الموقف؟

أسفار وترتيبات

ونعود إلى استمرار رحلات الـ»بيزنس» في «عصر التقشّف». المصادر تدلّل على الجولات الأميركية تحت مسمّى «جولات عملية» والتي نشطت في الآونة الأخيرة من قِبَل الوزير. وثمة من يقول إن دعوته كبار موظّفي الكونغرس إلى السفارة اللبنانية في واشنطن لتتكبّد الخزينة اللبنانية كافة النفقات كانت في إطار طموحات رئاسية ما. وما توزيع الأوسمة الذي شهدته السفارة هناك بحضور الوزير على أفراد داعمين لهذا التوجّه سوى خير دليل على ذلك.

الأمين العام، بدوره ومن خلال خطوة غير مفهومة، قرّر التقدّم بإخبار بحقّ مستشار أمام المدعي العام المالي لإرغامه على إعادة المال المقبوض بدل إجازات لم يستفد منها في الخارج. فماذا في التفاصيل؟ «كان النظام ينصّ على إعطاء الدبلوماسيين مستحقاتهم بالدولار بعد عودتهم من الخارج. وبعد أن حصل الأمين العام على مستحقاته، خرج باجتهاد حجب من خلاله الراتب بالدولار عن الدبلوماسيين الذين أتوا بعده بحجة التوفير على خزينة الدولة. لكن المستشار المحال إلى النيابة العامة المالية تمكّن من تقاضي راتبه بالدولار كونه لم يوقّع على الالتحاق على عكس الدبلوماسيين الآخرين. وهذا ما أغضب الأمين العام الذي بدا عاجزاً عن القيام بردّ فعل في حينه»، كما يجيب مصدر مطّلع.

أخيراً وليس آخراً، نعرّج على الترتيبات التي يقوم بها الأمين العام لنقل أحد الدبلوماسيين إلى مكتبه رغم أن مكتبه ليس «أمانة عامة». وهذا ما شدّدت عليه هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل التي لا تعترف بوجود كيان مستقل في الخارجية يُسمّى بـ»الأمانة العامة». وبذلك يتخطى الأمين العام رأي الهيئة، مع التذكير بأن هذا الموضوع كان سبباً رئيسياً في الخلاف الذي نشب سابقاً بينه وبين وزيرة الدفاع السابقة، زينة عكر.

القائمة بأعمال البعثة اللبنانية لدى الأمم المتحدة تقوم بنشر صور لها على وسائل التواصل الاجتماعي. وهو أمر عادي في الأحوال الطبيعية. لكن أن يتزامن ذلك مع حرمان لبنان من حق التصويت في الأمم المتحدة لتخلّفه عن دفع مستحقات بقيمة 1.835 مليون دولار- دون تحديد المسؤوليات أو اتخاذ إجراءات بحق المقصّرين- فشأن آخر. وأمام تهالك كهذا، تصبح مسائل من قبيل إعداد مشروع تشكيلات وإعادة من انتهت مهامهم الخارجية عصراً للنفقات- كما ينادي من يشعرون بالغبن- «ثانوية»، على أهميّتها. وفي هذا، للأسف، ما يشي بالكثير عن واقع الوزارة، خصوصاً، والديبلوماسية اللبنانية، عموماً.

زر الذهاب إلى الأعلى