القوات ما بتفجّر كنايس…القوات بتولّع البخور
29 عاماً عبرت على التفجير الارهابي لكنيسة سيدة النجاة. 29 عاماً والجرح ينزف مع المرأة النازفة. النازفة شفيت لحظة لمست طرف ثوب المسيح، لبنان لا يزال في عمق الجراح، ولم يمر المسيح بعد ليتلمّس طرف الثوب، وكأنه يريد لنا المزيد من مسامير الجلجلة وتاج الشوك لنستحق قيامتنا معه. لبنان لا يزال معلقاً على الصليب والشهداء، والأحرار قوافل قوافل.
29 عاماً شاؤا يومها تفجير الوجود المسيحي الحر، وجعل “القوات اللبنانية” حزب الارهاب والقتل وتفجير الكنائس، فتفجّرت فيهم الحقيقة الفاقعة، بأن “القوات اللبنانية” حزب الشرف والرجال الشجعان والحقيقة والمقاومة والنضال، لأجل وطن حر، حزب لا يقتل بل يقاوم كي لا يُقتل الوطن، حزب يتلمّس طريق النضال ولا ينتظر فقط مرور المسيح لإعلان القيامة، إنما يجعل من نفسه مقاوماً لأجل المسيح، لأجل الحرية لأجل وطن لا يستحق الا الحياة.
29 عاماً والحقيقة لم تعلن بعد، لكن نضال “القوات اللبنانية” حقيقة واضحة كشمس الربيع، كانت وستبقى في النضال، لأجل شهداء الكنيسة، لأجل كل شهداء الحقيقة والحرية.
أنفتح ملف التفجير ونكتب مقالات الذكرى والتكريم لنتذكر؟ لم ننسَ لنتذكر، بل سنكتب لننكز الحقيقة النائمة في ملفات وطن النسيان، ولإعلان حبنا وانتمائنا الى من أصبحوا شهداء لأجل لبنان.
ماذا نفعل لنوقف مجانين الحرية أولئك؟ ماذا نفعل؟! سنجعلهم مجرمين في عيون الشعب، فيغضب عليهم الناس ويسخط البطريرك الماروني، وليكونوا ممسحة عار في الشارع المسيحي تحديداً. عظيم، “إجلس يا… أ، تعال يا …ج، اكتب يا …ف، سنفجّر كنيسة تكون مكتظة بالمؤمنين يوم الأحد في مناطق نفوذهم”. أي كنيسة؟ سيدة النجاة. سنقتلهم وهم يقفون على ما يطلقون عليه اسم “مذبح الرب”، وكلما زاد عدد القتلى كلما كان أفضل ليكون حجم الجريمة أعظم وليكن استعراضاً عظيماً لأشلاء الأبرياء، وسنعلن على أثرها أن سمير جعجع الذي يدّعي حماية المجتمع المسيحي، هو من خطط ونفّذ وفجّر الكنيسة، سنعتقله وننهي ما يسمّى بحزب القوات اللبنانية، وندفن هؤلاء المقاومين وهم بعد أحياء”…وهكذا أُعلنت ساعة الصفر الأحد 27 شباط 1994 التاسعة صباحاً في وقت القداس.
في تلك اللحظة، تفجّر الحقد في الأجساد الطرية. في تلك الساعة تفجّرت العمالة وعرفنا أن للحقد بيوتاً ومعاقل اسمها الجهاز الأمني. في تلك اللحظة اشتعل ثوب المسيح، فعانق من رحلوا اليه قسراً، وصاروا شعاعاً من خيوط ثوبه، ولتتحول أرض الكنيسة الى بخور الشهادة المعلّقة على عيون الوطن الجريح المحتل.
كانت العبوات كثيرة ومعدّة لقتل أكبر عدد ممكن من المؤمنين، لتكون “الغلّة” حرزانة، ولتستحق اسمها كمجزرة ناجحة على قدر إجرامهم ووحشيتهم، لكن الرحمة الإلهية شاءت الا تنفجر الا واحدة منها، تلك التي كانت مزروعة عند أقدام العذراء، فتفجّر الوحش الذي يسكنهم حتى اللحظة، وأغرق الكنيسة بدماء شهدائها العشرة، ومن بينهم أطفال، وتحوّلت الكنيسة الى بحر دماء من لون دم المسيح على مذبحه تماماً، وفجّروا الحقد والشك في قلوب اللبنانيين، وتحوّل سمير جعجع الى المتهم الأول والأوحد، وصار المقاوم الفعلي سفاحاً، والمقاومون الشجعان زعراناً ومجرمين، والجهاز الأمني اللبناني السوري، اعتمر هالة القداسة معلناً الاستنكار والحزن الشديد على الضحايا!
يقولون إن الظلم لا يقع الّا على الأنقياء، ويقولون إن عمر الأشرار طويل وإن الشهداء عندما يذرفون الدماء فداء عن الوطن، تكون دماءهم ثمناً لحرية الأحرار والعبيد والأنقياء والأشرار والعملاء أيضاً، دماء الشهداء تحرر الانسان، وهذا ما فعله المقاومون على مدى تاريخهم، قبل تفجير الكنيسة ومن بعدها وحتى اللحظة والى آخر الأزمان.
وحدها “القوات اللبنانية” دفعت الأثمان الباهظة فداء عن مجتمعها، والجميع، الجميع من دون استثناء، تفرّج عليها. وحدها “القوات اللبنانية” كانت تدافع حتى الدماء عن سيادة لبنان، وحملت السلاح ووقفت عند متاريس الشرف دفاعاً عن تلك القيمة السماوية التي اسمها الحرية، فتربّصوا بها. لم يقبل المحتل السوري بعدوِ مماثل، لم يرضَ أن يتعرّض للإهانة من شباب يقودهم شاب هدفهم تحرير لبنان من الغرباء، ولم يجد المحتل المتوحش وسيلة للانتقام الّا عبر عملائه الصغار من أبناء البلد، عملاء من دون كرامة، من دون شرف يستخدمهم ليضرب عبرهم لبنان، فكان الجهاز الامني اللبناني السوري بقيادة ذاك الـ جميل السيد آنذاك، أفضل من ينفذ أجندته الدموية بحق المقاومين، ولم يجد أفضل من بيت الرب ليفجّر وحشيته ضد القوات وقائدها.
كان زمن الصوم، وكان أحد النازفة، عبر المسيح عند بيت القربان، مدّت النازفة يديها لتلمس ثوب الرب، ولما لمسته، شفيت. صرخ، “من لمسني؟ أشعر بقوة خرجت مني”، فنزف الوطن. اُهرقت دماء الأبرياء لينالوا من كل لبنان. اعتقلوا الحكيم، أعلنوا حلّ الحزب، جرجروا الشباب الى السجون، عذبوهم، علّقوهم على البلانكو، قتلوا فوزي الراسي تحت التعذيب، داهموا البيوت، أرهبوا الامهات والآباء والأطفال، نهبوا كسّروا روّعوا، وأعلنوا الانتصار الكبير، “خييي قتلنا القوات وفرح سيادة الرئيس في الشام، فلنفتح لهم القبور ولنسكَر على أشلاء الكنيسة”…وسكِروا لوهلة وليس أكثر، لأن عناد المقاومين وشجاعتهم سمّم سكرتهم، صمود الشباب وسمير جعجع غير المسبوق وغير المتوقع أغضبهم، وحتى وهو في الاعتقال، كسرهم وذلّهم.
اعتقلوه صحيح. حلّوا الحزب صحيح، ضاع الشباب صحيح، لكن لوهلة. في الاعتقال كان الحكيم الرجل الأقوى، في حل الحزب صرنا الأشرس، في الضياع تعلمنا من التجربة أن نلملم حالنا لنكون الشجعان، كتلة متراصة في المواجهة. فجّروا الكنيسة، فكشفوا حالهم الدنيئة المتلطية تحت رناجر المحتل، حاربونا فغلبناهم، لاحقونا فبقينا في شوارع المقاومة نناضل غصباً عنهم، وعدنا الأقوى والأنظف، الكل يشير الى نوابنا ووزرائنا ومناضلينا بالاحترام الفائق، وهم بأصابع الذل والاحتقار يُرشَقون. هم فجّروا الكنيسة ونحن أشعلنا بخور الصمود. فجروا الكنيسة، ارتفع لنا شهداء وماتوا هم وما زالوا أمواتاً يمشون. يكرهوننا لأننا ما زلنا أبناء الحق والقضية، ولأننا من تفجير الكنيسة وحين ظنوا أنهم قتلونا، وإذ بنا نحيا من جديد وما زلنا في عمق النضال نقاوم. فجّروا الكنيسة ليقتلونا فماتوا، وعشنا في القيامة لأجل لبنان.