بين السّكين والكلمة
أغبياء نحن إن ادّعينا أنّ السّكين الّتي اخترقت جسد الكاتب سلمان رشدي قد فاجأتنا، وأذهلتنا..
لا بل سنبدو كما لو أنّنا ادعينا الكذب.
فالسّكين هي أبسط نتائج تربيتنا الدّينيّة والاجتماعيّة الّتي تتراكم حقدًا فينا ومنذ قرون.
كنّا في مدرسة القرية نجلد كلّ يوم وبغير سبب، ونادرة هي المرّات الّتي جلدنا فيها لسبب.
كان “الصّمت من ذهب” أعظم من آية قرآنيّة.
يدخل المعلّم، يرتكب مجزرة في أيّ منّا نحن الأطفال الصّغار.
كان لا يعرف ضبط صفّه إلّا بذاك الأسلوب. يُسقط أيًّا منا ليكتم أنفاس الجميع طوال النّهار.
فإذا تبسّمنا صار “الضّحك بلا سبب قلة أدب” وحُقّ علينا الجلد.
نجلد بالكرباج إن أجبنا خطأ، وإن أجبنا صح، وإن لم نجب، وإن نظرنا خلفنا، وإن أغمضنا عيوننا، وإن سكتنا وإن وقفنا، أو جلسنا، أو خرجنا أو بقينا.
تخيلوا أن يصرخ المعلم في وجوهنا نحن الصّغار: ولا نفس!
وإلى اليوم أشتهي أن أجد من يفسّر لي الأمر. لعلّي أفهم نوعيّة الإنسان الّذي كانت المدرسة العربية تودّ أن تنتجه بهذه التّربية.
والمصيبة الأكبر أنّ أباءنا كانوا يؤكّدون لنا في المساء أننا قليلو أدب، ونستحقّ الجلد، فيجلدون ما تبقّى لهم من عظامنا.
وحذاري أن يكذب القارىء على نفسه، ويقول أنّ مدرسته في بلد عربي آخر كانت أفضل، حقيقة حذاري.
ففي مصر ذبح شاب فتاة أحبّها على الرّصيف أمام اللّه وعبيده، وقبله طُعن نجيب محفوظ في عنقه، وقُتل أنور السّادات على كرسيّه في احتفال عام، وكم من مجزرة وقعت لأجل اللّه في مسجد وكنيسة.
وفي الأردن قتل أحدهم حبيبته، وثان أخته وثالث أمّه بتربيته.
أمّا في سوريا والعراق واليمن ولبنان، فلا زال عبيد اللّه يقتل بعضهم بعضًا إرضاءً للّه.
فئة تقتل أخاها الإنسان لتنكح الحوريّات في جنّات النّعيم، وفئة تقتل ليظهر إمامها المنتظر.
والفئتان تتّفقان على قتل كلّ من ضحك، وسكت، والتفت، وتكلّم، وأخطأ، ولم يخطىء في ذلك الصّف الّذي كان في مدرسة قريتي غرفة، اتسعت لتتّسع لمعظم أوطاننا العربية.
سجوننا ملأى بالّذين حكوا، والّذين سكتوا، والّذين فكّروا، والّذين صلّوا، والّذين كفروا.
ولن أذكّر بما حصل في التّاريخ.
فلا قيمة لتذكير من لا زال يرتكب الحماقة نفسها.
يتّخذ رجل دين جاهل وأمّي فتوى بالقتل، فيرضى اللّه عن القاتل، ويدخله جنّات عرضها السّماوات والأرض، لأنّه طهّر الأرض من الاختلاف، فكأنّ اللّه لا يعبده إلّا حمقى متشابهون.
أليست تلك هي تربيتنا الّتي تجرّعناها صغارًا في بيوتنا، وصلاتنا، ومساجدنا ومدارسنا، ومجالسنا؟!
ألسنا سنّة وشيعة ودروزًا ومسيحيين ننافق، ونكذب على بعضنا البعض، ونجامل بعضنا البعض في العلن، ونكيد في السّر، ونؤكّد لأنفسنا، وأطفالنا أنّ الآخر كافر وجب قتله؟
كم مرّة سمعنا بكتاب آيات شيطانية، وما احتجنا إلى فتوى، لنلعن كاتبه بمجرد سماع العنوان؟
ولكم برّرنا فشلنا وتردي حالنا، معلنين أن سبب كل هزائمنا أمثال سلمان رشدي، وهزّة خصر راقصة، وتدخين النّساء، وتسريحات الذّكور القزع، وتبرّج الإناث!
نحن سذّج إلى حد أنّنا لا زلنا نؤمن أنّ الاستعمار هو من جعلنا هكذا، ونتحاشى الاعتراف بأنّ لدى المستعمر أبشع ممّا لدينا من خلل وعيوب، ولكنّه جعل الإبداع والحرية في رأس سلّم القيم العليا.
متى سنعترف بأنّنا أمّة تحرّم الشّعر وتكفره وبنصّ صريح، وأنّنا أمّة تكره الجمال، وتعشق الكراهية والحقد والقتل؟! وأنّ منّا من يوزّع الحلوى لمقتل خصمه في حيّ، ومنّا من يزغرد لموته في حيّ مقابل، ومنّا من يرقص ابتهاجًا لمصيبة انزلتها السّماء في أرض الكفّار؟ وأنّنا نطلق النّار على السّماء أكثر مما تطلق علينا من أمطار؟
لن تنال السّكين من الكلمة مهما سنناها، لأنّ الكلمة لا تسقطها إلّا الكلمة.