حوار مع الكاتب اللبناني المبدع عمر سعيد: “أشدّ ما واجهته في حياتي هو الخوف من النّص”…
خاص بيروت تايمز بقلم ميشلين أبي سلوم
الكاتب الأديب في تعريفه التقليدي هو من أخذ من كل شيء بطرف، ظل هذا العرف سائدا لفترات طويلة يُتناقل عبر الكتب والأحاديث، وكأنه قانون يلتزم به كل من هوى الأدب واتخذه مهنة يعرف من خلالها بما يقدم من فنون أدبية من شعر ونثر، ومع مرور الزمن أصبح الأخذ بكل شيء بطرف يتحول من المسمى العرفي له إلى انشطارات وتشظيات، فمن يرى أن التخصص في فرع من الأدب هو الذي يقوم الأداة عمن دخل عالم الإبداع، فالشاعر يجب أن لا يتخطى ساحة الشعر، والقاص كذلك، والروائي يظل في استمرار يكتب الروايات، والناقد الدارس يحوم حول فن من هذه الفنون، وكان وربما ما زال من يرى إلى ذلك أنه الصواب، وحتى في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة، كان ينظر إلى مسألة التخصص في فن معين من الفنون الأدبية أنه هو الصواب ولا يجانبه. لكن الأدب ذاته لم يقبل من حالة التمترس عند حد معين، فمنح الشاعر الفرصة ليكتب ما يشاء المقال -القصة الرواية- وما يندرج في إطار الفن الأدبي كافة مشترطا أن يكون قادراً وملما بما يريد أن يسير مركبه في بحره أو نهره، ويعني بذلك سعة المعرفة وتنوع الاطلاع العميق في الفنون المتعلقة بما يري أنه يملك القدرة على عملية توصيل ما يقوم به من عمل إلى المتلقي، فأصبح الأديب الملم صاحب الخلفية المعرفية المتنوعة، والواعبة المستوعبة لشؤون الثقافة، يكتب فيما تدفعه معرفته إليه بإجادة تامة، ونماذج الأدباء ممن يتصفون بهذه القدرات هو الكاتب والروائي والشاعر والناقد عمر سعيد… من مؤلفاته برزت صورة الأديب متعدد الأنواع في نتاجه الثقافي.. ونذكر منها: « لم تكن إيموزار ولكنها كانت »، « ما عدت أنتظر الشتاء فلا أنت تأتين ولا المطر »، ” سوق الملح”، «الجاموس وطائر الإوز »، “من بيت الطّين إلى عنّايا”، “حكي تنور”…. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن له مؤلفات مسرحية من أبرزها “ثورة النساء” ، “صراخ الطمأنينة”، “الناس والناس” ، “الباب العجيب” وغيرها ..
عمر سعيد روى حياتنا الاجتماعية اللبنانية، جسّد خيبتنا وصمتنا وهجرتنا بلغة غير متكلّفة. نضرة. حيوية. متفرّدة. تصويرية حينا. سردية أحيانا. مشوّقة دائما. ثقافته الواسعة أضافت الكثير إلى ألقه، الشهرة لم تعنِ له الكثير بل محبة قرائه وأصدقائه ومتابعيه هي هدفه الاساسي. ما يفرح قلبه في الواقع انتشار روايته في العالم. هو الكاتب المؤمن الودود، الطيّب، الثائر، المثابر، المضيء. باختصار قلمه يروي العقول قبل الورق فقد تفرد في حياته التي وهبها للكتابة في خدمة الإنسان دون سواها وهذا نادر المثال من أن الموهبة تقود إلى الاحتراف في عالم الإبداع! وللتعرف أكثر عن فكر الكاتب عمر سعيد كان لنا معه هذا الحوار التالي:
١- ماهو السر وراء حبك لكتابة قصص مصدرها الضيعة والواقع المعاش؟
يقال في قريتي أنّ الطّفل حديث الولادة لا يرى إلّا بعد اربعين يومًا، ولا أعرف الحقيقة العلمية لهذا القول، ولكنّي أعرف مدى ارتباطي بقريتي قبل تلك الأيّام الأربعين، وقبل الولادة. فقد تسلّلت إلى تلك القصص والمطارح عبر مداخل أمّي، ومشيت في تضاريس الوجع والفرح والحزن والموت. فحين كانت أمّي تضخ الحياة في كوني الصّغير داخل رحمها، كنت أطلّ على قريتي عبر صوتها المنكسر حزنًا، ومن خلال قصصها المتّكئة على الصّبر والحرمان، وجرّاء خيالها المطاردِ للحبّ الخفيّ.
٢- هل أصبحت الحرب الأهلية سردية حتمية فى الكتابة اللبنانية؟
ما كانت الحرب بذلك القدر السّيىء الّذي صوّره الكتّاب عمدًا بسلبيّتهم ورمانسيّتهم العالية. فالحرب وإن كانت اكتشافًا سلبيًّا للآخر، وتعارفًا دمويًّا عليه عبر القتل والدّمار والإقصاء، إلّا أنّها منصّة اكتشاف وتواصل لا يدرك معناها إلّا مبدعون كبار وحقيقيون في أزمنة ما بعد الموت والقتل والدّمار، هناك حيث تنتظر أكوام القصص من يعيدها إلى الحياة هناك، ينبغي أن تكون الحرب مادّة سرديّة حتميّة، لأنّها الوسيلة الوحيدة لقراءة الأمس بكلّ ألوانه وأهواله، فاسترجاع الزّمن بكلّ أوجاعه وأحبّته الّذين نأوا، وعقد الصّلح والتّفاهمات مع الذّات المبدعة، ومع الآخر الّذي انهكته الجراح، ومع الأجيال يفتح قنوات آمنة بين الماضي والحاضر والمستقبل تمكّن القادمين من النّفاذ للاطلاع ولفهم من هم أجدادهم مجتمعًا وخبزًا موتًا ومحبة وكراهية ونظم تفكير وسلوك وحياة.
٣- بما أنك كاتب مخضرم ماهي الصعوبات التي واجهتك في بداياتك لكي تكون كاتبا محترفا وماهي علاقتك مع القلم الآن؟
إن أشدّ ما واجهته في حياتي هو الخوف من النّص، منذ بدايتي وإلى اليوم. لأنّ النّص هو الأقدر والأقسى دومًا. كنت ولا زلت أكتب على حواف الهزيمة، فيؤكد لي القراء بألف رسالة انتصاري على النّص، وأبيت ليلًا أتقلّب خشية اكتشافهم عكس ما أوهمتهم، فالنص كان ولا زال أعمق جراحي وأوسعها وأعصاها على الرّتق، ولو كررته آلاف المرّات.
٤- كيف يكتب الكاتب الرواية أو القصة وهل هي موهبة أم مهارة ام من الممكن أن يتعلمها ويكتسبها من تكرار المحاولات؟
لن أبسّط الأمر لأقول أنّها حرفة، لأنّني أصف تجربتي وأتحدّث عن أدواتي، فعلى الرّغم من أنّي طالبت الجامعات باستحداث كليّات الإبداع الشّعريّ والنّثريّ، لتكون مهمّتها فقط تأصيل هذا النّوع من الإبداع في الطّالب على غرار الرّسم والموسيقا والنّحت. لكنّي أعود لأقول إنّ كتابة الرّواية والقصّة ليست مهارة ولا موهبة أو هواية، بل هي قدرة الكاتب على التصاقه بأوجاعه، وتجاربه المعتمة والمضيئة. فالسّرد لا يأتي من حيث يشاء الكاتب،وبتاتًا. بل إنّ منابعه ومباعثه حيث يُنبِت السّرد نفسه، هناك في الخيال المؤثّث بالتّجارب الّتي لا تزول، ولا ينطفىء اشتعالها مهما أعيدت صياغتها وكتابتها. لأنّها تجارب حقيقيّة مهما التبست على القرّاء، وقد انبعثت تضاريس حقيقية مهما تسامى الخيال، فالخيال هو من أشد الأبعاد تعبيرًا عن جوهر الإنسان وحقيقته. ففيه تتراكم كلّ الطّبقات الّتي يشكّلها الوجدان والذّاكرة والحنين والاشتياق، وفيه تتأصّل قدسيّة العلاقة بين المادّة السّرديّة والسّارد والقارىء.
٥- كيف يكون الكاتب متميزا وماذا يفعل إذا تملكه اليأس؟ هل يتوقف أم يحاول مرة آخر ؟ وهل يئست يوما من الكتابة وكم من الوقت استغرقت للرجوع مرة أخرى للكتابة؟
التقيت بكثيرين عبروا عن عدم جدوى الكتابة، لكنّي من المؤمنين بالأصوات، فالكون أصوات متناغمة متآلفة في ضديّتها وتنافرها وتفاوتاتها. لذلك أجد أنّ صوت اليأس هو المحفز الّذي يدفعني للإصغاء إلى أصوات النّاس وتحاربهم، لرفعي صوتي كتابة. فلا أذكر أنّي توقّفت عن الكتابة، أو تراجعت. والسّبب كما قلت سابقّا: أن جراحي لا تحتمل الاستكانة أو الالتئام.
٦- ما هو رأيك في الكتاب والأدباء في وقتنا الحالي وكثرة التوجه نحو الكتابة؟
سعيد جدًّا بهذا الاقبال الكبير على عالم التّعبير، لأنّه وبلا شك سيساهم في تعميق الوعي والتّفاهمات البشريّة، ويؤسّس ويؤثّث لتجربة أكثر خدمة للإنسان، غير أنّي أدوعو إلى الحذر من أن يصبح الكاتب قارىء نفسه، ونصوصه فقط. فتقع تجربة الكتابة في فخ القطيعة القاتلة بين ما يُكتب وما يُقرأ على مستوى البشر.
٧- ماهي العبارة أو الحكمة التي تستند إليها في مسيرتك الأدبية؟
“علّمتني الكتابة أن أكون واضحًا، فالكاتب الحقيقيّ لا يكذب”
٨- هل يوجد نقاد حقيقيون في لبنان والوطن العربي؟
لست من المؤمنين بأهميّة النّقد، وأرجو أن يتسع صدر من قد يزعجه رأيي. ذلك لأنّ النّقد حالة بعديّة لا قيمة لها قبل العمل الإبداعيّ. وكما لا اسم لطفل من أب عقيم، ليس هناك نقد حيث لا إبداع. ورغم قناعاتي السّلبية بالنّقد، إلّا أنّي أتابع ما يكتبه النّقاد، وأحاول الإفادة منه، وفأتابع الدّكتور عاطف الدّرابسة من الأردن، وأقرأ لياسين النصير من العراق.