الأزمة التي تعصف بلبنان اليوم، ليست من طبيعة طائفية عامودية، بل معيشية، سيادية وطنية افقية شاملة، فعندما نتحدث عن موضوع السلاح غير الشرعي يتلاقى مسيحيون مع مسلمين في رفض هذا السلاح، تماماً مثلما يتلاقى مثلهم في الاعتراف به والتهليل له، والأمر ذاته ينسحب على الملفات المعيشية والسيادية الأخرى.
الجوع والفقر واليأس والخوف من المجهول والذل والقهر وانتهاك السيادة، الذي يعيشه اللبنانيون اليوم، لا يُفرّق بين مسيحي ومسلم، ولا بين سنّي وشيعي ودرزي، فالكل امام هذه الاوضاع والتحديات سواسية، امّا الانتماء الطائفي والمذهبي فيتراجع، في ظل هذه الحالة، الى آخر سلّم اولويات المواطن اللبناني.
فهل تقلّص عدد المسيحيين او زيادة عددهم يُغيّر في جوهر الأزمة القائمة اليوم؟
وهل اذا كان المسيحيون 1 بالمئة من تعداد سكان لبنان والمسلمين 99% تنتفي مشاكل لبنان، وتحّل النِعم والبحبوحة على المسلمين اللبنانيين مثلاً؟
وهل اذا تمكّن المسلمون تبعاً لذلك من اخراج المسيحيين من كل مواقع السلطة، وتوليّهم لها بدلاً عنهم، تصبح احوال المواطنين المسلمين في الف خير وازدهار؟
رفع شعارات العدد لإخراج المسيحيين من الحيّز السياسي، يعني خروجهم ايضاً من الحيّز الثقافي والاقتصادي والخدماتي والجغرافي معه، وتوقّف ضخ مليارات الدولارات الى لبنان وفقدان لبنان قيمته المُضافة في المنطقة ودوره الرسولي، وتحولّه رقماً إضافياً في تعداد الدول العربية المُحيطة التي يحكمها الفكر الواحد. فهل يستطيع المسلمون اللبنانيون ملىء هذا الفراغ الضخم للخروج بلبنان من هذه الدوّامة، ام ان ذلك يُعمّق الأزمة اكثر فأكثر؟
هل ينخفض الدولار، وتصبح ربطة الخبز بالف ليرة؟ هل يتراجع سعر البنزين؟ هل يصبح بإمكان المسلم اللبناني الدخول الى المستشفى وتعليم اولاده والتمتع بالخدمات الصحية والاجتماعية؟ الجواب، طبعاً لا.
وطالما الجواب لا، هذا يعني بأن القضية لا ترتبط بعدد المواقع التي يتولاّها المسيحيون في الدولة، بل بهوية من يتولّى هذه المواقع، سواء كان من المسلمين او المسيحيين.
فالنزاهة، والشفافية، والأمانة، والترفّع ومفهوم رجل الدولة الصالح، لا ترتبط بمذهب هذا السياسي او طائفته، بل بمخافته لله، والانتماء الديني او المذهبي يبقى مجرّد كلمة على ورقة الهوية، إن لم يقترن بالممارسة الصحيحة لأسس الدين ومرتكزاته الأخلاقية، وتطبيقها على مستوى الشأن العام، وهذا كلّه لا علاقة له، لا بعدد المسلمين ولا بعدد المسيحيين في لبنان، بل بعدد رجال الدولة النزيهين الذين يخافون الله، والمخولّين بالفعل تولّي مقدرات الدولة، بصرف النظر عن هويتهم الطائفية.
قوة المسيحيين في لبنان لم ترتبط يوماً بعددهم، بل بدورهم الثقافي، التعليمي، الخدماتي، والاستشفائي، الحضاري، السياسي، وعندما يتقلّص عدد المسيحيين في دولةٍ ما، فهذا يعني ان الفكر الداعشي والديكتاتوري، لا الفكر الاسلامي المعتدل، هو الذي يتقدّم تمهيداً للحلول مكانهم، وهذا ما يعود ويرتّد اضعافاً مضاعفة من السلبية على المسلمين انفسهم، وهو ما حصل في سوريا والعراق في وقتٍ ليس ببعيد.
لا يمكن الحديث عن تعداد المسيحيين، إلا اذا كان المسلمون بلوك ثقافي واحد بمواجهتهم، فيُصبح العدد في مقابل العدد ويربح صاحب العدد الأكبر، امّا اذا كان المسلمون موزعين بين معتدلين ومتطرفين، وبين مؤيدين لإيران ومؤيدين للبنان، عندها يُضاف الى تعداد المسيحيين، تعداد المسلمين المعتدلين والمؤمنين بلبنان، فيُصبح عدد هؤلاء وقيمتهم الحضارية والسياسية المُضافة مع بعضهم البعض، اكبر بكثير من مجرّد احصاءٍ عددي جامد، لا يأخذ بعين الاعتبار مقوّمات القوة الحضارية والثقافية والسياسية الثانية، في زمننا الحاضر.
الزجّ بموضوع تعداد المسيحيين في ازمةٍ من طبيعة معيشية سيادية وطنية جامعة، هو تجنّي كبير على كل اللبنانيين، وهو تشخيص خنفشاري لهذه الأزمة لن يؤدي الى اجتراح العلاجات الدقيقة لها بطبيعة الحال، وهو ايضاً محاولةٍ لحرف الأنظار عن لبّ المشكلة الحقيقية، المُتمثّل باستحالة التعايش، في تركيبةٍ دستورية واحدة، بين مفهوم الدولة من جهة والسلاح غير الشرعي من جهةٍ ثانية، وبين مفهوم رجل الدولة من جهة، وتولّي المواقع الدستورية من خلال المساومة مع السلاح غير الشرعي من جهة ثانية، لو مهما حاول المرقّعون الترقيع، لمجرد حجز موقعٍ سياسي وسطي لهم بين هذا وذاك، يُلبّي لهم حاجاتهم السلطوية من جهة، ولا يكشف للناس حقيقتهم في ظل هكذا تركيبة مسخ، من جهة ثانية.
امّا بعد، فإذا استمرت بعض الأصوات التي تنتحل صفة “الإسلامية” في الحديث عن موضوع تعداد المسيحيين، تمهيداً للمطالبة لاحقاً بتقليص الحصة السياسية للمسيحيين في الدولة، فعليها ان تعلم جيداً بأن هذه الحصة ليست منّة من احد، بل مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالعقد التأسيسي للبنان بين المسلمين والمسيحيين، وعندما يُخّل احد الأطراف بهذا العقد يُصبح الطرف الثاني في حِلٍ من هذا العقد ايضاً، وعندها لا تعود الأزمة ذات طبيعةٍ معيشية او سيادية او وطنية كما هي عليه في الحقيقة، بل تصبح ذات طبيعة طائفية ولو مُصطنعة، وهو ما يؤدي تلقائياً الى وحدة الشعور المسيحي امام هكذا نوع من تحديات واخطار، خصوصاً في ظل وحدة مرجعيتهم الدينية في بكركي، ووحدة البقعة الجغرافية التي ينتشرون فيها بشكلٍ اساسي، وفي ظل امكاناتهم المادية والحضارية والاقتصادية والاغترابية الضخمة، وهذا ما يجعلهم الأقوى في اي توازن قوى جديد.
وعندها ايضاً وايضاً، لا عجب ان يُفضّل الكثير من المسلمين المعتدلين والمتنورّين الانضمام الى هذا التوجّه للحفاظ على حريتهم وكرامتهم ومساواتهم، على البقاء في كنف السلاح والمافيات والفوضى واللادولة في غير توجّه.
فإلى كل من يرفع شعار تقلّص عدد المسيحيين، عن سوء نية، لا عن حسن نيّة، راجعوا حساباتكم جيداً، ولا تُدخلوننا في التجارب من جديد، وإلا كان الله يحّب المُحسنين. آمين.