خاص ـ في ذكرى تفجير سيدة النجاة… الأباتي صفير يتذكر
29 عاماً عبرت على التفجير الارهابي لكنيسة سيدة النجاة. 29 عاماً والجرح ينزف مع المرأة النازفة. النازفة شفيت لحظة لمست طرف ثوب المسيح، لبنان لا يزال في عمق الجراح، ولم يمر المسيح بعد ليتلمّس طرف الثوب، وكأنه يريد لنا المزيد من مسامير الجلجلة وتاج الشوك لنستحق قيامتنا معه. لبنان لا يزال معلقاً على الصليب والشهداء، والأحرار قوافل قوافل.
29 عاماً شاؤا يومها تفجير الوجود المسيحي الحر، وجعل “القوات اللبنانية” حزب الارهاب والقتل وتفجير الكنائس، فتفجّرت فيهم الحقيقة الفاقعة، بأن “القوات اللبنانية” حزب الشرف والرجال الشجعان والحقيقة والمقاومة والنضال، لأجل وطن حر، حزب لا يقتل بل يقاوم كي لا يُقتل الوطن، حزب يتلمّس طريق النضال ولا ينتظر فقط مرور المسيح لإعلان القيامة، إنما يجعل من نفسه مقاوماً لأجل المسيح، لأجل الحرية لأجل وطن لا يستحق الا الحياة.
29 عاماً والحقيقة لم تعلن بعد، لكن نضال “القوات اللبنانية” حقيقة واضحة كشمس الربيع، كانت وستبقى في النضال، لأجل شهداء الكنيسة، لأجل كل شهداء الحقيقة والحرية.
أنفتح ملف التفجير ونكتب مقالات الذكرى والتكريم لنتذكر؟ لم ننسَ لنتذكر، بل سنكتب لننكز الحقيقة النائمة في ملفات وطن النسيان، ولإعلان حبنا وانتمائنا الى من أصبحوا شهداء لأجل لبنان.
في 20 شباط 2022، وقبل أيام قليلة من الذكرى الـ28 لتفجير كنيسة سيدة النجاة، انتقل الأباتي أنطوان صفير الذي كان يرأس الذبيحة الإلهية في 27 شباط من العام 1994، في كنيسة سيدة النجاة، يوم دوى الانفجار، الى رحمته تعالى، بعد وجع ومعاناة.
موقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، ينشر بتصرّف، مقابلة أجرتها معه الزميلة جومانا نصر في “المسيرة”، العام 2016.
عندما دوى انفجار سيدة النجاة، لم يكن الأباتي صفير قد تجاوز الـ53 من عمره، أصيب إصابة بليغة في الطحال وبقي في العناية الفائقة 70 يوماً. بعد المجزرة، انتقل الى دير مار ضومط في فيطرون واستحبس فيها.
يروي الأباتي صفير تفاصيل تلك المعاناة، “كانت الساعة تقارب التاسعة و10 دقائق وكنت أنهيت ترنيمة “قاديشات آلوهو” وجلست قرب “قرّاية” الإنجيل واستعد لأعطي البركة لقارئ الرسالة… وطلع الانفجار”. بدأ الزجاج يتناثر على الأرض وعلى رؤوس المصلين، ثم عمت الكنيسة غيمة كثيفة من الغبار وعلت أصوات البكاء والصراخ والاستغاثة. “الحمدلله إنو الكنيسة ما كانت مكتظة بالمصلين كما الحال في قداس الساعة 11 حيث يصل عدد المصلين إلى 400، عدا عن الذين يقفون في الخارج”، يقول مستطرداً.
التحقيقات كشفت أنه كانت هناك خمس عبوات معدة للتفجير، لكن واحدة فقط انفجرت وأحدثت زلزالاً، “العناية الإلهية عطلت باقي المتفجرات ولو انفجروا الخمسة كنا صرنا بالبحر”. يضيف الأباتي صفير، “بذكر أول ما بلش القداس وبلش العازف على آلة الأورغ يدق، طلعت خشّة قوية، واستمرت لدرجة إنو وجهتلو ملاحظة. بس تبين لاحقاً إنو السبب كان نتيجة ربط المتفجرات بأسلاك الكهرباء الموصولة على الأورغ”.
على الرغم من فداحة إصابته لم يفقد الأباتي صفير وعيه، “دخلت السكرستيا، وحاولت أن أستفسر عن عدد الضحايا ووضع الجرحى، لكن قواي خارت بسبب الإصابة البليغة في الطحال. وصودف دخول الأب طوني الراعي إلى الغرفة فرآني على الأرض ونقلني بسيارته إلى مستشفى سيدة لبنان. عندما وصلت كان ضغطي 3، فأدخلني الأطباء فوراً الى غرفة العمليات، وأحدثوا ثقباً في معدتي من دون بنج، وتم استئصال الطحال، ثم خضعت لعدة عمليات في القدم والوجه وبقيت في غرفة العناية الفائقة 70 يوماً، لأنقل بعدها إلى مستشفى أوتيل ديو”.
عندما استيقظ الأباتي صفير سأل أولاً عن أسماء الشهداء. قالوا له إن عشرة سقطوا في مجزرة الكنيسة، الطفلة إليان بطيش وميراي مشعلاني وماري عطالله وألفرد عطالله ومنصور سكر وأنطوان عماد وأندره عيد وتوفيق منصور وعبود أبو خليل وتوفيق خليل. بكى على الرغم من الوجع الذي كان يزنر جسده. لكن وجع الروح كان أقوى. “كانت أكبر من مأساة كنت أعرفهم واحداً واحداً. استشهدوا لأنهم كانوا يصلون في كنيسة. من كان يتوقع ذلك؟”.
في الذكرى السنوية الأولى للتفجير دخل الأباتي صفير كنيسة سيدة النجاة، وعندما رأى أهالي الضحايا شعر بالدوار. حاول أن يتماسك ويشد من عزيمتهم لكن مجرد أن بدأ بمعانقتهم انهار وبدأ بالبكاء. “نظرنا في عيون بعضنا البعض وبكينا بمرارة”. وحده مشهد الطفلة إليان بطيش التي كانت تجلس على المقعد الأمامي مع والدتها التي قصدت سيدة النجاة لتفي نذر أول قداس تأخذ ابنها جو إليه بعد عمادته، لا يزال ماثلاً بقوة أمام عينيه.
هل تقدمتم بدعوى شخصية كأهالي ومتضررين أمام القضاء؟
“لشو؟ وأمام من؟ ومين قال إنو الحقيقة راح تظهر يوماً ما؟ بالأول حاولوا يوهموا الناس إنو القوات ورا التفجير. حلوا الحزب وحطوا الدكتور جعجع بالسجن الانفرادي 11 سنة وظهرت الحقيقة. أساساً ما كان المطلوب تظهر لأنو كانت واضحة متل الشمس. وبس طلبوني لإشهد أمام المحققين ببعبدا، رحت وهونيك شفت الدكتور جعجع وكان مكبل اليدين. حزنت كتير مع إنو كانوا عيونو بيأكدوا إنو إنسان صلب ومؤمن. يومها سألني القاضي عدنان عضوم، بتقول إنو القوات فجروا الكنيسة؟ كان جوابي واحد، ممكن القوات يعملو أي شي إلا إنو يفجرو كنيسة. قلتا وبعدني على قناعاتي. فجروا الكنيسة ت يحلوا الحزب ويفوتوا سمير جعجع ع الحبس. بس القوات لا فجروا كنيسة ولا بيعملوها”.
من فعلها؟
“يمكن النظام السوري يمكن أجهزة امنية مش لبنانية ويمكن الشياطين. بس التمن كان غالي كتير”.
وهل أنت حاقد؟
“أنا ناقم لأنو راح ضحايا أبرياء. شو ذنبن، شو ذنبي؟ كنا عم نصلي بكنيسة. إذا كانت هذه جريمتنا، فمع آلامك يا يسوع…”
بعد استئصال الطحال عانى الأباتي صفير من آلام كثيرة، “بعد الإصابة صرت نص إنسان، إذا مش ربع إنسان. الإصابة هدتني. بس طاقتي العقلية ما تأثرت. من رقبتي وطلوع بعدني قبضاي. وأنا بقيس الإنسان من رقبتو وطالع”. مع ذلك لم يتخل عن واجباته الكهنوتية، “لم أتردد يوماً عن الاحتفال بالذبيحة الإلهية، وفي كل مرة أقف أمام المذبح تعود إليّ ذكريات ذاك اليوم، أحد النازفين والنازفات”.
ثمة ذكريات تستفز الذاكرة، وشريط ذكريات الأباتي صفير بدأ يتخزّن منذ 27 شباط 1994، “ولا لحظة ممكن إنسى الانفجار ومشهد الضحايا والجرحى والأناجيل اللي كانت ملطخة بالدم. بس اللي بيوجعني أكتر هوي النفاق واللعب بمصائر الناس الأبرياء. لهيك قررت اعتزل العالم الخارجي بعد ما ضهرت من المستشفى. ما عدت إقرا جريدة ولا افتح راديو ولا احضر نشرات الأخبار، إلا فقط تا أعرف شو عم بيصير بالعالم”.
بعدما انتقال الأباتي صفير إلى دير مار ضومط في فيطرون، بسنوات، قرر أن يعيش وحدته فاعتزل في غرفته، أو في القلعة كما يسميها في الدير مع صديقه الوحيد الكتاب. أول الحصاد، كتاب ترجمه من اللغة الإيطالية إلى العربية بعنوان: “صمت مريم”، وعلى غلافه صورة لسيدة النجاة اختارها عربون شكر لأنها أنقذته من الموت، وفي الداخل، كتب عبارة “مني إلك يا سيدة النجاة… شكرا”.
نسأل، “ولماذا تستثني تأريخ مجزرة سيدة النجاة في كتاب وأنت الشاهد الأول عليها”؟ يجيب، “إلا هالكتاب. لأنه لن يضيف إلا حرقة في قلوب أهالي الضحايا وكل من سيقرأه”.
منذ العام 2011، توقف الأباتي صفير عن المشاركة في القداس الذي يقام في كنيسة سيدة النجاة في ذكرى تفجيرها. حتى أنه لم يشاهد الكنيسة بعد ترميمها ولا حتى اللوحة الجديدة التي تمثل صورة العذراء وقد كتبت على وشاحها أسماء الضحايا. “صحيح ما بقا عم شارك الأهالي بالقداديس السنوية وما حدا حتى عم يتذكرني، بس بصليلن وبذكرن بالقداس اللي بحتفل فيه هون بكنيسة الدير وحدي أو مع كم مؤمن، لحظة الانفجار ما بنساها. راح تروح معي ع القبر”.
وراحت لحظات تلك المجزرة الأليمة مع الأباتي صفير الى القبر.