سلّم علييّ لبنان باحتفال معراب

لم نعتد سوى المشهديات الاستثنائية في معراب. حفل اعلان لوائح القوات اللبنانية الانتخابية. حضر الكل، مرشحون ورفاق واصدقاء وحلفاء، وحضر معهم من غياب قسري عنيف طووووويل، لبنان! أهلا وسهلا، أهلا وطني شتقنالك كتير يا رجل وين هالغيبة، كيفك منيح شو اخبارك، شو بو وجّك هيك ضعيف، ليش هالقد تعبان، شو كنت عم تعمل عم تفلح البستان، ليش مش عم نشوفك؟ وكرجت الاسئلة من فيض الشوق واللهفة، ولم نترك له المجال ليجيب المسكين! المسكين؟! كيف يمكن أن نصف وطنا بتشبيه هزيل مماثل؟! رأيته بأم عيني يتهالك على المقعد الامامي في معراب، بالاحرى رأيته يحتل المقاعد كافة، والوجوه كافة، والزوايا كافة والخطابات كافة.

لبنان يحتل؟ منى قلبي ان يفعلها ولو لمرة واحدة، علّنا ولو لمرة في العمر نَحتل ولا نُحتل! هذه هلوسات مشتاق منكوب بقهر بلاده ليس أكثر.

جلس وطني الى الصفوف الامامية في معراب، واساسا لا تُحجز له الا تلك الصفوف، لانه هو ليس الضيف الدائم بل هو صاحب البيت، هو قلب الدار، هو الحديقة والسطح والشرفة، هو مطبخ السياسة النظيفة حيث لا يقدم الا اطباق الكرامة كي يبقى البيت وأهله بصحة جيدة. لا يترك لبنان ذاك المكان، لذلك معراب تعيش تعبها الدائم، لا تعرف الراحة، لا بترتاح ولا بتخلي حدن يرتاح.

هون ممنوع التعب، هون يعيش لبنان لذلك نحيّك لاجله كل شبكات الامان الممكنة في وطن المستحيل.

بدأ الاحتفال، صعدت تلك الاعلامية الرائعة دنيز رحمة فخري، تكلمت بغضبها وخوفها على بلادها قبل حروفها، قدّمت الحفل باحترافيتها الدائمة واناقتها اللافتة كما دائما. توالى المرشحون تباعا، بكلمات مقتضبة لم تتجاوز الدقيقتين لكل منهم، تخلل القاء الخطابات بعض التقارير عن انجازات القوات اللبنانية في البرلمان والوزارات والمواجهات النضالية مع منظومة السلطة والفساد، وايضا رقصة ايقاعية تحكي عنفوان الشباب وتدعوهم للثورة عبر صوت الماجدة، وفي الختام، كانت طبعا كلمة الحكيم المدوية. كل ذلك وانا اراقب انفعالات وتعابير لبنان الجالس الى جحيمه… لكن لم ارَ جحيمه في تلك اللحظات الغامرة بالعنفوان، “وين النار والوجع والحروق لبنان؟” سألته.

نظر مبتسما “بس كون بمعراب بلاقي حالي، انتو بتسحبوا مني الطاقة وبدل ما اتعب برتاح، لان بشوف وجي بنضالكن”… افف لبنان بيحكي لبناني متلي متل كل اللبنانيين؟! لم يسمع السؤال اذ كان بدأ الحضور يحاصره من كل الاتجاهات، وتنهال فوق وجهه القبلات، والكل يغمره ويعانقه حتى الاختناق، خفت عليه، وهرعت لإنقاذه، وجدته يضحك حتى القهقهة، كان سعيدا، كانت الدماء التي تنزّ منه على مدار الساعة، توقفت فجأة، بقيت جروحه مفتوحة واضحة حتى الهلع، لكن لم يترك تحت اقدامه بحيرات الدم كما هي العادة، دماؤه ما غيرها تلك التي ينزفها من طعنات الخونة والعملاء والفاسدين، لا وجود لهؤلاء في معراب.

كان الجو نظيفا معقما بلبنان، فاح عبق الارز بحضوره، وحضوره في قلب المرشحين ووعودهم الصادقة، واعلان سخطهم وغضبهم والمهم وخوفهم عليه، ودعواتهم الحارة للبنانيين بان يقترعوا لختيار الزمن ذاك الذي لا يشيب، للشاب الذي عمره ستة آلاف عام، وما زال يعاند الغزوات والاحتلالات والارهابيين والجهلة والعملاء.

كانت مشهدية استثنائية كالعادة هناك، لان لبنان كان صاحب الدعوة، والمحرّض، وصاحب الكلمات، والمشروع والمناسبة كلها، وانا رأيته، أقسم اني رأيته يبتسم لانطوان حبشي داعيا اياه الا يتراجع “لو شو ما عملوا ملوك السلاح”، وغمز داني خاطر “ما تتردد، وجودك بالبقاع رمح القوات”، ولغادة ايوب “انت شجاعة وشلال جزين مش رح يخذلك” ولستريدا جعجع “بشري ناطرتك من جديد”، ولايلي خوري “قلب طرابلس بيحبك حبو اكتر بعد”…ولكل مرشح منهم كلمة بمثابة صلاة رشّها عليهم ليتموّنوا المزيد من الشجاعة بعد، المزيد من الايمان بعد، المزيد من الصلابة بعد، ليواجهوا لاجله شياطين الجحيم.

طيب ما في كلمة للحكيم لبنان؟ التفت، أغمض عينيه، وتمتم على مهله “انا والحكيم منصلي سوا المسبحة، هو تـ انا أرضى عليه وضل عايش بنضالو ومقاومتو وابقى قضيتو المقدسة لابد الابدين، وانا بصلي تـ الرب ياخد بإيدو وياخدكن معو لعندي مهما كانت الطريق صعبة، ويعطيكن الشجاعة الكافية للمواجهة والانتصار على الشر، وتبقوا تسلموني امانة الدهر لاجيال واجيال لابد الابدين”… انتهى الاحتفال.

ذهب المرشحون الى معاركهم الانتخابية مدججون بلبنان، والعدالة لاجل لبنان، والسيادة والحرية والكرامة والازدهار لوطن الحلا والقيم والشهداء والحياة. وبقي لبنان جالسا وحيدا، ليش بقيت وحدك؟ فأجابني: “مسكين لبنان سيكون، ما لم ننتخب النماذج التي رأيناها في معراب، وفي لبنان منها الكثير بعد. مسكين لبنان اذا اغفلنا مشهدية معراب ولم نسقطها اصواتا حرة نزيهة رقراقة كثلوج جبالنا في صناديق الاقتراع. مسكين لبنان ما لم نعش روحية القوات اللبنانية حتى لو لم نكن محازبين، لا يهم.

مسكين لبنان اذا مارسنا كبرياءنا الفارغ كي لا نعترف بخطيئتنا ونعود عنها وننتخب الشرفاء والصادقين. مسكين لبنان ما لم نواجه بشراسة غير موصوفة وغير مسبوقة تلك الطبقة القاتلة لشعب باكمله. مسكين سأكون ما لم نقرع أجراس النصر يوم 16 نوار، على الدويلة وعلى تيارات الفساد، وعلى من فجّروا لبنان واغرقوه في ظلامه، وحوّلوه الى جحيم، وافقروه واذلوه وجعلوه شعبا تائها معدما ذليلا. سأكون وطنا مسكينا، وقد لا اعود حتى وطنا، بل مجرد مزرعة يحكمها الذئاب والرعاع، اذا أغفلنا مشهدية معراب واسقطنا أسامي القتلة، لنفتح معهم قبور اللبنانيين”!! بدي قلّك شي لبنان…لو لم أكن قوات لبنانية لكنت… قوات لبنانية لأجلك والى ابد الابدين.

زر الذهاب إلى الأعلى