شهادة عمرها 4114 يوماً… سرُّ صمود جعجع شادي ديراني

21 نيسان 1994، يوم اعتقلوا الحكيم… للذكرى والتاريخ والحق والحقيقة، أكتُب وأشهَد:

يومها، وقف وحدَهُ في وجهِ منظومة الفساد والمزرعة والدويلة والتبعية والاحتلال… ووقَفَت معه القوات، حاملةً صلبان الاضطهاد والاعتقال والنفي والاغتيال… 11 سنة وثلاثة أشهر مَرّت ثقيلة بإجرامها وظُلمِها وبشاعتها، كالسكين مَرَّت على أعناقنا.

ويوم خرج الحكيم من المُعتقل، وذهب إلى فرنسا للخضوع لفحوصات طُبيّة بعد سنين الاعتقال في زنزانة أشبه بالمقبرة، ثم عاد واستقَرَ في الأرز، التقيناه في اجتماع تعارُفٍ مُصَغّر كرؤساء دوائر في مصلحة الطلاب، كنت يومها رئيس دائرة الإعلام. في سكون ذلك الليل التشريني، غرقت عيناه خلف اللحظات، نزَح الحكيم إلى عمق وجدانه… قال، لم أكن أعرف إنْ كانوا سيعتقلونني يومها فعلاً أم سيغتالونني في طريقي إلى المُعتَقل، ولم أكن أعرف إن كانت فترة الاعتقال ستطول ليوم أو أسبوع أو شهر أو سنة أو سنين… لكني كنت متأكداً من أمر واحد، دفعني للمواجهة والصمود، وهو أنه سيأتي أُناسٌ بعدي يقولون “هكذا يجب أن نواجه”…

وبالفعل حكيم، هكذا كان!

نحن لم نعرفك يوماً قبل دخولك إلى الزنزانة، لكننا تعلمنا منك الصمود والمواجهة والالتزام، أنا وكُثُر من أبناء جيلي من المناضلين. لم نحمل يوماً سلاحاً إلا الحقّ، ولم نخف يوماً إلا على القضية، ولم نمشِ يوماً إلا خلف الحقيقة… يوم ذَهَبتَ أنت لتواجه الجلّادين المُجرمين المُحتَلّين وأعوانهم وأدواتهم وأذنابهم، كنا نحن بعد صغاراً… بَيدَ أننا لحقنا بك إلى عمق زنزانتك، ولو بالروح، وبعدها بالجسد مرّات ومرّات، وتمسكّنا بك قيمَةً ورمزاً وعنواناً للقضية… أجزُمُ بأننا لم نترُكك طيلة 4114 يوماً! كنت معنا في كلِ صلاةٍ نُصلّيها، في كل جَمعةٍ، في كل قدّاس، ومع كل رفعةِ كأسٍ على مائدة، كنت أنت غَصَّة العيد… حتى في غيابك كنت الحاضر الأكبر.

أخذناكَ معياراً ومِثالاً، وكُنّا نخجل إن تخاذلنا أو تَجرأ الكسل ليتسلّل إلى نفوسنا، ورحنا نتسابق لصَقلِ التزامنا ومعرفتنا… كثُر قالوا عنّا مجانين، لا بل الأكثرية اعتبرونا مساكين… وكان حضورك في ضمائرنا مضطرماً، بَرّاقاً، مُتوهّجاً… في عمق وجداننا سمعناك تقول “اذهبوا كالنعاج بين الذئاب”، فصرنا لكثرة التزامنا وعمق إيماننا، ذئاباً تخافها نعاج الذلّ والتبعية والخنوع.

اليوم، أسمَعَهُم يقولون “كلّن يعني كلّن”، فأتَعَرَّقُ لكثرة نُكران الجميل، لكثرة الجهل والغوغائية والسطحية… فكيف تحمِلَهُم أنتَ وتَصبُر وتُكمِل وتواجه؟

سمير جعجع، في وطني المصلوب، أنت بقعة ضوء ومدرسة صمود ووعي والتزام… في هذا الشرق المُظلِم، حيث تتشرّد الحقيقة وتضيع، أنت صوت صارخ في برية السفسطائيين… وفي زحمة المُرائين المُخادعين الزاحفين، أنت عَضَلة السيادَةِ، وقلب القضية اللبنانية، ووجه هوية وطننا التعددي، وأكثر: أنت سيّد النضال الشريف، وحكيم الوطن… وتبقى.

زر الذهاب إلى الأعلى