“ضبي ابنك عن المتراس”.. وصار المقاوم الأب كساب!
كلها معارك، كله إيمان، كله نضال. أن تناضل لأجل الأرض كمن تصلي لأجل الرب، البارودة سلاح والصلاة أيضًا سلاح. يقولون إن أفضل الكهنة هم هؤلاء الذين تغمست وجوههم بتراب المعارك ومن سالت فوق بدلاتهم دماء شهيد، فتبارك من وطنه قبل أن يصل المذبح ويمجد اسم المسيح. ويقولون أكثر بعد، إن المقاوم الذي يتحول كاهنًا، ليس بفعل التوبة كما يظن البعض، بل من فرط الإيمان بأن هذه الأرض تستحق أن تحمل لأجلها الباروة وقت الخطر، وأن تصبح كاهنًا على مذبحها عندما يشتد الخطر.
هل توافق أب شارل كساب؟ يضحك من قلبه “أكيد أوافق، نحن فُرضت علينا الحروب والمواجهات، الحرب ليست من ثقافتا بالأساس، لكنها فرضت علينا للحفاظ على وجودنا، لدينا شهداء يسوعيين في صور ودير عشاش وسواها، كانوا كهنة ومقاومين في الوقت عينه، عشت حياة الإيمان بعمق الظرف الصعب الذي عشنا فيه، كنا نريد السلام مع الجميع ولكن الآخرين فرضوا علينا الحرب، كانوا كلهم مسلحون إلا نحن، فاضطررنا لحمل السلاح والدفاع عن ارضنا” يقول الاب شارل كساب الكاهن المناضل.
شهد على ما حصل عشية 13 نيسان، وبوسطة عين الرمانة تلك التي أطلقت شرارة الحرب في لبنان. رأى الدماء ورأى شبانًا أبطال يخترقون الموت والرصاص للدفاع عن أهل المنطقة، ورأى جرحى وسمع صراخ زوجة شهيد. كان مراهقًا، فكبر فجأة وصار رجلًا وقرر أن يحمل البندقية، ولم يرخها عن اكتافه الى أن تحول مقاومًا انما في بيت الرب.
“انا ابن المية ومية، ربينا بجو كنسي، من طفولتي أدخل الكنيسة مع أهلي في كنيسة مار مارون عين الدلب، كنا من سكان الأشرفية، وعلى عيد الفصح نطلع عالضيعة ع بيت ستي ونعيش زمن القيامة بكل طقوسه، نحن أصلًا شعب ربينا على ثقافة الحياة والقيامة والسلام، وبأجواء الجيرة والتعاون، ولكن ما حصل ليلة 13 – 14 نيسان وكان إثنين القيامة، زرع في داخلي ثورة كبيرة وغيّر مسار حياتي، صار عنا موت بالضيعة، أول مجزرة صارت بحق الشعب المسيحي جنوب الزهراني المعروف بالساحل الجزيني، كان الهدف تفريغ الوجود المسيحي من المنطقة، ما حصل علّمنا أنه يجب أن ندافع عن أنفسنا، لأن في اليوم الثاني من وقوع المجزرة لم تتدخل الدولة، لم يتحرك أحد على الاطلاق، ولم يحمنا أحد بقلب المنطقة، تركونا لمصيرنا، وشهدت على الوجود المسلح الفلسطيني ينتشر بكل منطقة الزهراني حتى بيروت. من بعد هالمجزرة قرية المية ومية والقرى المجاورة هاجرت، هربنا الى بيتنا في الأشرفية. كان ثمة ما يُحضّر للمنطقة، شعرنا بذلك. بعد محاولة اغتيال الشيخ بيار الجميل في عين الرمانة، ورغم أن غالبية رجال الضيعة كانوا في السلك العسكري، لكننا لم نقم بأي ردة فعل، كنا ننتظر العدالة قال، ولما استبيحت الأرض والحرمات والحريات العامة، اضطررنا للدفاع المشروع عن النفس” يقول الأب كساب.
العام 1978 عندما اندلعت حرب المئة يوم على الأشرفية، كان المراهق شارل كساب دخل فرقة الاشبال في حزب الكتائب، وبدآ يتلقى التدريب العسكري “فجأة بلش الهجوم على بيوتنا وكنا في الأشرفية نرى الذخائر تنقل بالشاحنات قرب كنيسة مار يوحنا، ونستغرب لماذا يفعلون، واندلعت حرب تموز، كان عمري 13 سنة وقررت حمل البارودة ولم أسأل أحدًا، كان صراعًا وجوديًا ولا مجال للتفكير أبعد من ذلك، لأني رأيت بأم العين هجرة الأهالي وصمود الأبطال”، يقول الاب كساب.
كان ورفاقه يحمل بندقية مزينة بصورة العذراء مريم، مزيج متناقض “طبعًا لأن بنادقنا لأجل الحق، لأجل الدفاع عن الحرية والكيان يوم تخلت عنا الدولة، صورة الباودة والعدرا كنت بال 14 داخل متراس مواجه لكنيسة السيدة بالأشرفية، كانت حرب المئة يوم وقاتلنا بشراسة وطردنا السوري المحل، ولمعلوماتك أنا حفظت الانجيل خلال المعارك، خلف المتاريس كنت أقرأ وأرتل بصوت عالِ” يقول.
أول متراس تسلقه كان في الليدو ومعه أشبال من عمره، خاف عليه خاله حنا جبور الذي صار شهيدًا بدوره وانتشله بالقوة وقال لأمه “ضبي ابنك”، ولا ينسى الأب كساب كلمة خاله له “بس موت أنا بتكمل انت”، وهذا ما حصل، وعاد واستكمل تدريباته وشارك بكل المواجهات العسكرية.
“بالأسواق التجارية كان السوري والفلسطيني بوجي، كنت أدرس عالمتراس، بقيت حتى الـ1983، وبلشت التحضير لدخول الجامعة، مع نشاطي العسكري أكيد، بعد استشهاد البشير ركزت على درسي، والله دبرني ولم يتبق من فرقتي الا ستة شباب. أنا من الاشخاص يللي كنت أحضر كل تلاتا محاضرات الشيخ بشير، ثلاثاء استشهاده كنت بدورة عسكرية بدير مار يوسف بقعقوتا. بعد استشهاده مرضت وعشت مأساة لأنهم وضعوني مع الحرس فوق الردم، كانت مأساة رهيبة بالنسبة اليّ، تألمت بشكل فظيع، كأن ابي هو الذي مات، كان هو الحلم وبكيت بكاءً مريرًا” يقول.
التحق الاب كساب بجامعة الحكمة حيث درس الحقوق، ثم أكمل دراسته في الجامعة اللبنانية حيث نال دبلوم في الإدارة العامة. لكن في قلبه كان ثمة نداء يشده اليه، ثمة نداهة ساحرة لا يمكن أن تعاكسها، كان الرب ينده عليه ليكون خادمًا على مذبحه، “أنا أساسًا من عيلة كهنة، المطران بولس موسى الجزيني عم جدي، الخوري جريس البطرك مخايل موسى فاضل كساب، البطرك رقم 64 وربيت بهالجو، أمي كانت أستاذة تعليم مسيحي وحفّظتني مزامير داوود وانجيل يوحنا وسواه، رسالة الكهنوت بدأت في أعماقي والكتاب المقدس لم يكن يفارقني لحظة، في الثمانينات تحولت حياتي الى العمل الانساني في خلال الحروب، وصرت أرافق الجرحى، وتعمقت بالإنجيل كثيرًا والرب غير حياتي”.
كل سنة يشارك الأب كساب في قداس الشهداء في معراب، “أشارك لأن عندنا شهداء بالمقاومة وأقارب ورفاق، وبالنسبة الي هذه شراكة بين الكنيسة المجاهدة المنتصرة مع أخوتي القديسين الذين قدموا أنفسهم كأبرار. نحن حملنا قضية الإنسان في هذا الشرق ولم يحمل أحد معنا. نحن نقول الحقيقة كاملة كما يقول الرب. يللي استشهدوا يمكن كانوا صاروا كهنة قديسين، نحن شعب سلام نحب الحياة والعلم وملتزمين كنسيًا، ثقافتنا للسلام وليس للحرب ولكن الأرض لنا، مبارح ابو عمار والسوريين واليوم نصرالله، نحن نواجه ثقافة الموت بثقافة الحياة والسلام، وأنا ككاهن ماروني أطبق تعاليم يسوع، أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم وأحسنوا للذين يسيئون اليكم”.
هل ندمت يومًا لانك كنت مقاتلًا في المقاومة اللبنانية؟ يضحك “أندم؟ هيدا شرف كبير بالنسبة الي، وأنا ما بنسى بعمري رفاقي الشهدا”…