ضربة موجعة لباريس: تدريس “الإنكليزية” في المدارس الكاثوليكية؟

ترخي التطورات السياسية بظلالها على الساحة السياسية، فكل شيء في لبنان مربوط بالسياسة بسبب الأزمة الإقتصادية الحادة، وما قد يحصل بين المدارس الكاثوليكية وفرنسا، وإذا كانت له أبعاد تعليمية، إلا أنّ البعد السياسي حاضر بقوّة نتيجة مواقف باريس الأخيرة ومحاولتها تقديم مصالحها على المصالح اللبنانية وكسر إرادة المسيحيين.

عندما هبّت إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنجدة المدارس الكاثوليكية وغير الكاثوليكية التي تعتمد المنهاج الفرنسي وحاولت تأمين بعض المساعدات المادية للصمود، كانت تفكّر ببعد ثقافي وسياسي أيضاً، واذا تخلى قسم من اللبنانيين وخصوصاً المدارس المسيحية عن تدريس الفرنسية كلغة أساسية، سيشكّل هذا الأمر ضربة موجعة للثقافة والحضارة والحضور الفرنسي في الشرق الأوسط والعالم.

ومع تزايد موجات الهجرة، حرص الموارنة على إنشاء مدارس في الخارج خصوصاً في أستراليا واميركا وكندا تُدرّس أيضاً اللغة الفرنسية، وبالتالي إذا تخلت تلك المدارس في الوطن والمهجر عن اللغة الفرنسية، ستخسر باريس شريحة كبيرة من اللبنانيين في الخارج تتكلم الفرنسية ولا تقتصر أضرار هذا القرار على الداخل اللبناني فقط.

لكن السؤال الذي يُطرح، لماذا حصل هذا التدهور السريع في العلاقات بين المدارس الكاثوليكية التي تُعلّم كل اللبنانيين وليس المسيحيين فقط وبين فرنسا التي كانت ترغب فعلاً في إنقاذ المدارس الفرنكوفونية؟

فوقية واهتمام بالنازحين

الجواب على هذا السؤال واضح، فقد استقصت «نداء الوطن» عن أسباب التدهور الحاصل، واتضح أن العلاقة بين اللجنة الأسقفية للمدارس الكاثوليكية وفرنسا تأزمت منذ تولّي السفيرة الفرنسية آن غريو منصب سفيرة بلادها في لبنان، حينها بدأت تتعامل مع المدارس الكاثوليكية بشيء من الفوقية، وحين تطلب اللجنة الأسقفية موعداً مع السفيرة لبحث الهمّ التعليمي يتمّ إرجاء الموعد لفترات طويلة، علماً أنّ السفيرة غريو تصول وتجول على الجميع وتزور مخيمات النازحين السوريين وتقدّم المساعدات، ولا وقت لها للقاء المدارس الكاثوليكية التي تحرص على الحفاظ على اللغة والثقافة الفرنسية أكثر من الفرنسيين أنفسهم.

وإذا كان تعامل السفيرة الفرنسية مع المدارس الكاثوليكية مُهيناً، يبقى السبب التقني أشدّ وطأة من تعامل السفيرة ما دفع المدارس الكاثوليكية إلى التفكير باعتماد المناهج الإنكليزية بدل الفرنسية.

وفي التفاصيل، ومنذ وصول السفيرة الفرنسية إلى بيروت طلبت المدارس الكاثوليكية من الفرنسيين تزويدهم بالـCurriculum، أي سيرة البرامج الفرنسية وقواعد المنهج التعليمي الجديد وذلك لتطوير المنهج اللبناني وتحديثه لأن التطورات الحاصلة تفرض التطوير وإلا سيتراجع مستوى الطلاب اللبنانيين، وحتى الساعة لم تمنح فرنسا للمدارس الكاثوليكية هذا الأمر، ما أدى إلى «فرملة» تطوير المنهاج في المدارس الكاثوليكية.

وبالنسبة إلى المساعدات، فما وعدت به باريس المدارس لا يشكّل نقطة في بحر المساعدات السخية التي تقدّمها الإدارة الفرنسية للنازحين السوريين وطلابهم، وحتى أنّ المساعدات المقدمة للمدارس الكاثوليكية لا تكفي مصروف المازوت بعد التضخّم الذي حصل في لبنان، وكل ما تتكلّم عنه باريس هو تضخيم للمساعدات ولا يوجد شيء كاف على أرض الواقع، بل همها الطلاب السوريون لكي يستوطنوا في لبنان بينما لا أحد يتطلّع الى الطالب اللبناني ولا حتى الى مدارسه.

عروض مغرية

وأمام هذا التأزم الحاصل، تكشف معلومات مؤكّدة لـ»نداء الوطن» أنّ البحث بات أكثر من جدّي في المدارس الكاثوليكية للتخلّي التدريجي عن اللغة الفرنسية وإعتماد الإنكليزية كلغة أساسية بديلة، وهذا الأمر لن يحصل فجأة، بل يبدأ بصفوف الروضة والإبتدائي وتزداد نسبته تدريجياً ليصل إلى التخلي النهائي، لأن من بدأ مسيرته التعليمية على اللغة الفرنسية سيكملها.

وبالنسبة إلى اللغة الفرنسية، فإنّ تلك المدارس تفكّر باعتمادها كلغة ثانوية أو تثقيفية، أي بمعدّل ساعة أو ساعتين في الأسبوع على أبعد حدّ، في وقت بدأت التفكير باعتماد أكثر من لغة ثانوية كالإيطالية والألمانية مثلاً وعدم حصرها باللغة الفرنسية وترك حرية الإختيار للتلميذ، ما يزيد من مستوى التأزم في العلاقة مع باريس.

ويتلقى عدد من المدارس الكاثوليكية عروضاً من المنظمات الأنغلوساكسونية لإعتماد اللغة الإنكليزية، فالفرنكوفونية تتراجع، واللغة الإنكليزية تجتاح العالم، وحتى طلاب المدارس الفرنكوفونية في لبنان يضطرون إلى أخذ «دروس» باللغة الإنكليزية عندما يلتحقون بالجامعات. وبهذا الأمر تكون المدارس الكاثوليكية قدّ لحقت بالحداثة ووفّرت على الطلاب معاناة تعلم الإنكليزية في الجامعة، إضافة إلى عروض بتقديمات سخية للمدارس التي ستقلب لغتها الأساسية من الفرنسية إلى الإنكليزية لإنقاذها من الإفلاس نتيجة الأزمة الإقتصادية.

السياسة حاضرة

وبانتظار إتخاذ المدارس الكاثوليكية القرار النهائي، يظهر وجود شقّ سياسي لا ثقافي وتعليمي فقط خلف التفكير باعتماد اللغة الإنكليزية، ومن أحد تلك الأسباب هو عدم قدرة فرنسا على لعب دور فاصل في لبنان، لا بل إكتشاف عدد من الإكليروس أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعتمد أسلوب المراوغة، ويقدّم مصالح بلاده على مصلحة المسيحيين واللبنانيين.

والملاحظات في هذا المجال كثيرة جداً، فالرئيس الفرنسي لا يعطي أهمية لإرادة المسيحيين، ويفتح حوارات جانبية مع طهران على حساب لبنان، ويتحالف مع المنظومة الفاسدة التي أوصلت للإنهيار ويريد بثّ الروح في هذه المنظومة عبر صفقات وسمسرات معها ومع راعيها الإقليمي، إضافة إلى إنقاذه لهذه المنظومة بعد انفجار مرفأ بيروت وذلك خدمةً لمصالحه.

ومثلما يعمل ماكرون لتحقيق مصالحه وبعض النافذين وحمايته للفاسدين في لبنان، هناك إتجاه لدى المدارس الكاثوليكية للقيام بمصلحة الشعب اللبناني، ففوقية السفيرة الفرنسية إضافة إلى تقنين المساعدات للمدارس وحماية المنظومة الفاسدة التي أسقطت المدارس والجامعات والمستشفيات والمصارف، كلها عوامل تعليمية وثقافية ساهمت في تفكير المدارس بالذهاب إلى تعليم اللغة الإنكليزية فقط، وإن كان هذا الأمر يحمل رسائل سياسية واضحة المعالم ولا تحمل أي إلتباس.

لا تريد المدارس الكاثوليكية إغلاق أبوابها كرمى لعيون فرنسا أو أي دولة أخرى، فالطالب والأستاذ اللبناني ليس أقل شأناً من السوري الذي تدعمه فرنسا وأوروبا، فهذه المدارس التي أنتجت نهضة لبنان والشرق، لن يقبل القيمون عليها باقفالها بينما اللبنانيون بأمس الحاجة لها، ومن دونها لا قيمة للوجود المسيحي ولا يمكن تطوير المجتمع اللبناني بأكمله، لذلك سيجول القيمون عليها كل أصقاع العالم من أجل تأمين الإستمرارية وعدم الإتكال على دولة تتحالف مع الفاسدين، فمن بدأ التعليم من تحت السنديانة ليصنع نهضة لبنان لن يرضى بانهيار مدرسته في أصعب مرحلة من تاريخ البلد.

زر الذهاب إلى الأعلى