عرّانا السّلاح الّذي انتشر بين أيدينا خلال ليلة وضحاها.
كنّا رعاة وفلّاحين، نعرف بواحير المطر، ومربعانيات البرد والحرّ، أنواع الخراف والنعاج والأبقار، ومتى تحيل إناثها، ومواسم تطعيم الأشجار وزرع أرضنا، وفجأة بتنا نعرف أنواع الطّلقات، والبنادق، وأسعارها في السّوق، وظهر فينا تجّار سلاح. عرّانا إلى درجة أنّنا بتنا نستيقظ على خبر قتيل أو قتيلة، وننام على مثله.
صرنا إذا سمعنا صوت الرّصاص نميز إن كانت طلقة م ١٦ أم كلاشنكوف أو مسدّس توغاريف أو تسعة أربعة عشر.
عرّانا، فرحنا نسمع عن جرائم في قرى مجاورة كالّتي تقع في قريتنا وأقسى، حتّى هزّتنا جريمة وقعت في قرية مجاورة، على يد شاب قتل أمّه وأباه وأخاه وأخته، دون أن ندينه، بل سوّقنا فكرة أنّه كان مخمورًا أو متعاطيًا.
عرانا إلى حد أنّنا سترنا جهلنا إثر كل جريمة باستحضار إبليس للعنه على وضعنا في ساعة تخلً، دون أن ندين جهلنا وغباءنا الّذي راح يوسّع الفراغ المرعب فينا كمجتمع، يقبل على السّلاح والقتل والشّر، ويعتقد أنّ ذلك كلّه من سنن الحياة، بل كانت كلّ أخطائنا إرادة للّه.
لا بل رحنا نفتّش في التّاريخ بعد كلّ جريمة عمّا كسبناه بأيدينا.
لنكتشف أنّ جَدّ القاتل أو أحد أقربائه، قد نكح الأخت وأختها، أو أنّه قد أكل مال الأيتام، أو أنّه سرق أملاك إخوته، أو شهد الزّور، أو ما صام ولا صلى، لنشيع “إن اللّه يمهل ولا يهمل”.
وصرت أظلّ عالقًا في تساؤلاتي عن إله يلهو بنا، ويتسلّى بخلقه، فينتقم من مخطىء قبل عشرين أو ثلاثين أو حتّى خمسين عامًا بطفلة أحد أحفاده، الّتي قتلت برصاصة طائشة في فرح، أو بطفل لَهَا بمسدس أبيه فقتل أمّه، أو بشخص قتل نفسه أثناء تنظيف سلاحه.
وليتنا كنّا نترك الأمر لإرادة اللّه فقط، كنّا نؤلّف السّيناريوهات، الّتي تجعل القتيلة آثمة، فنبدأ التّحليل من جدّها المسيىء لننتهي بها كعاصية.
وراحت مواقفي تسمح بتكفيري، وصرت أتّهم بالإلحاد، وبتت مرشحًا لإقامة حدّ الرّدّة عليّ.
حتّى أبي لم يَنجُ من تعرية السّلاح له، أبي الّذي اكتفى بجلدنا بحزامه الجلد، فأدمانا وشوه وجوه بعضنا، عرّاه السّلاح، وصار يهدّدنا إثر كلّ ما لا يرضيه منّا، فيلتفت إلى من لا تعجبه من أخواتي الفتيات، ويمدّ إصبعه في وجهها، قائلّا بحزم: “إذا بتميل عينك هيك أو هيك بقوصك”.
وصارت أمّي تهمس نتيجة خوفها: “بدكن تشحّروني، استروني، بلا ما تبلوني ويقوّص حدا منكم، وين بدّي هجّ”.
ورحنا كأطفال كلّما أمسكنا خطأً على بعضنا البعض، نهدّد الفاعل منا بفضحه أمام أبي، حتّى يقوصه.
قوّصنا بالسّلاح خزّانات ماء ومازوت فوق الأسطح، وعجلات جرّارات زراعيّة، ومصابيح إنارة في الشّارع، وجدران بيوتنا، ونوافذ بعضها، وتلفازاتها الّتي أشعّت منها ليلًا، وحيواناتٍ سارحة، وطيورًا محلّقة، وقوّصنا أباءنا وأبناءنا وأخواتنا وأمّهاتنا وإخوتنا وأصدقاءنا، وما قوصنا وإن بطلقة واحدة أيّا من عدونا، الّذي لا زلنا نعطيه ظهورنا كلّما بدأنا حرب.
ذات صباح أبلغني أبي أنّ عليّ الالتحاق بمتوسّطة إحدى القرى المحاذية، وكنت قد تعلّقت بأصحابي في مدرستي القديمة في القرية، تململت ورفضت، وحملت حقيبتي، وسرت صوب القرية.
شعرت كما لو أنّ صاعقة نار دخلت أذني اليمنى، التفتّ إلى يميني، لاجد حزام أبي من طرفه المعدنيّ يسقط فوق رأسي، وجسدي.
أفقت على طعم الدّماء في فمي، تلمّست وجهي كانت أذني اليمنى قد تمزّقت.
نهضت، واستدرت، ثمّ توجّهت في الطّريق إلى المدرسة الجديدة تلك الّتي جلدت فيها لأجل الحبّ، وفي أذني صوت أمّي تتوسّل أبي الّذي يصرخ فيها: “قواصك حلال إنت وابنك” كبرت وصرت أفرُّ هاربًا أمام أبي، وذات مرّة كنت أجري مبتعدًا عنه داخل حقل قمح في السّهل الممتد أمام بيتنا، فتناول الجفت وراح يطلق عليّ النّار. نزلت أزحف بين الزّرع لئلّا أصاب بنار أبي.
كان أبي يخاف علينا من الانخراط في الحرب الأهليّة، لدرجة أنّه كان مستعدًّا لقتلنا لئلّا ندخلها.
ذات يوم وأثناء العمل في إحدى ورش البناء الّتي راحت تنبت في الحيّ الّذي كنّا أوّل سكّانه، طرحني أرضًا، وضغط بحذائه على كتفيّ، وثبّت فوّهة الكلاشنكوف في رأسي، ولقّمه، وهو يصيح: “بقوصك وبخلص منّك” وأنا أبكي، وأتوسّل: “دخيلك يا بيّ التّوبة، ببوس إجرك ما بقى عيدها” وإلى اليوم وأنا أفتّش عن أخطأي لأتجنبها، لعلّ أبي يكفّ عن تعنيفي وإن في ذاكرتي، فلم أجد أكثر من رفقة صديق لم يعجب أبي، أو تكاسلي عن إنجاز مهمّة أوكلت إلي، أو رسالة حبّ الطّفوليّة حرمتني الحبّ.
بعد أن تزوّجت أقسمت ألّا أضع في بيتي قطعة سلاح، ورحت أفتّش عن اللّه.