فَليَحكُمِ… السياديّون
إنّ السياديّةَ، كما يحلو لي أن أسمّيَها، تَختصرُ مبدأَ المُواطنة، لأنها تُدرِجُ الوطنَ في هالةِ التّقديس، بحيثُ يصيرُ الحبُّ فيه، والبُغضُ لأَجلِه، والنضالُ لنُصرتِه، والإستشهادُ في سبيلِه، فيطغى الولاءُ له على كلِّ رابطة. والسياديّةُ، في السّلوك، هي النُّهوضُ الإستراتيجيّ لتعزيز الهويّة الوطنيّة، ونشاطٌ دَؤوبٌ للإرتقاءِ بمفهومِ الإنتماءِ الى نَسجِ إيديولوجيّةٍ وجوديّةٍ تنسحبُ على كاملِ زمنِ الوطن.
لقد تطرّقتُ الى السياديّةِ بالذّات، لأنني اعتبرتُ أنّ الانتخابات التي جرَت، كانت بين مشروعَين، أو هدفَين إستراتيجيّين متقابِلَين هما سيادة لبنان، وانتداب لبنان. فهناك مَنْ يحملون بطاقاتِ الهويّةِ زُوراً، ونظريّاً، وأَكسِسواراً في شَقعةِ ما يزجّونه في جيوبِهم من بطاقاتٍ، وشِعاراتٍ، وصُوَرٍ…لا علاقةَ للبنانَ بها. وهناكَ مَنْ يَرَون الوطنَ هيكلاً مقدَّساً، عواميدُهُ نوازعُ من وجدانِهم، وجدرانُهُ حِجابٌ من ضلوعِهم، فهو عِقارُ كرامتِهم، وربيعُ حضورِهم، وصدارةُ وَعيِهم، وهو حالةٌ فَوْماديّة مُتَّحِدةٌ بروحِ الخلودِ في ما يُشبِهُ الحُلول.
لن أستديرَ لأتذكَّرَ حقبةً قبلَ الإنتخابات، وقد زاغَ قَلَمي لكثرةِ ما دَعَوتُ الى الإقتراعِ بكثافة، محذِّراً من التّقاعسِ عن الواجبِ المُلزِمِ الذي، وحدَه، ينقذُنا من جهنّم. لكنّني لن أستديرَ عن مواجهةِ النتائجِ التي تمخَّضَت عنها الإنتخابات، وعن كيفيّةِ صياغةِ بعضِها، وذلك، بموضوعيّةٍ تسكنُ في آرائي، منذُ أن تَمَكَّنتُ من الإدلاءِ بها، ولم يكن زمني معها قصيراً، ولا كانت، هي، معي، شحيحة.
إنّ قراءةً متأنِّيَةً في حالِ النتائجِ تُثبِتُ، وبالخطِّ العريض، أنّ شريحةً واسعةً من الشّعبِ أعلنَت، وبجرأةٍ فائقة، بأنّها سيّدةُ نفسِها، وصاحبةُ قرارِها، ومُدافِعةٌ عن حريّتِها في انتمائِها، وولائِها. لذلك، أسقطَتِ المتسلِّلين الى الواجهةِ السياسيّةِ للسَّطوِ على موقعِ القرار، فأضحى هؤلاءِ من الماضي. وإذا دلَّ هذا الإنجازُ على شيء، فعلى تَوقِ الشّبابِ الى وطنٍ حرّ، وعلى نُفورِهم من بشاعةِ الممارساتِ التي سطّحَت مفهومَ الدولة، واغتالَتِ الديمقراطيّة، وحوَّلَت آمالَ الناسِ الى يأسٍ قاتِل. إنّ هؤلاءِ الشّبابَ، وهم حالةٌ تجديديةٌ سياديّةٌ بامتياز، قد تقمّصَهم موسى، فاستطاعوا شَقَّ المياهِ يَباباً موصِلاً الى أرضِ الخلاص، وبذا، قلبوا الموازين، وأطاحوا، وبدونِ عنف، بمَنْ كانوا يعتبرون أنفسَهم ثَوابِتَ في منزلةِ الأمرِ الواقِعِ المفروضِ أكثرُه من الخارج.
أمّا الأكثريّةُ التي اغتالَتِ الوطن، وأعطَت حاكميّتَهُ للسّلاحِ المَقيت، ولِمَنْ يرفعُهُ للتسلُّطِ، والهيمنة، بشكلٍ ديماغوجيٍّ سافر، فقد انتقلَت، ومن صناديقِ الإقتراع، الى أكثريّةٍ ثوريّةٍ أسقطَت الشَّرعنةَ الزّائفةَ لتلكَ البِدَعِ التي تخفي، وراءَها، أهدافاً ملتبِسَةً، ليس أقلَّها تسليمُ لبنانَ الى انتدابٍ يُعيدُه الى عصورِ التخلّفِ والإنحطاط. وهكذا، وبتَهاوي الأكثريّةِ البائدة، انتصرَ عامِلُ الكرامةِ الغَضبى، لاستعادةِ ما ضُيِّعَ من الحريّةِ والسيادة.
لقد أشرتُ مراراً، الى أنّ الرَّقمَ هو، وحدَه الثّابتُ في عالَمِ المتحوِّلات، وما يُبنى على الرّقم، لا يرقى إليه الشَكّ، وهو ما يُعتَدُّ به كحقيقةٍ مطلَقَة. من هنا، وأنا لستُ في مساجلة، إذا ما قُمنا بمقارنةِ الأرقامِ التي حَظِيَ بها كلُّ فريقٍ مُنافِس، نَخلُصُ الى أنّ كتلةَ القوّاتِ اللبنانيّةَ قد ارتفعَ سقفُ أرقامِها، إِنْ في عددِ مرشَّحيها النّاجحين، فبعدَ أن كان لها، قبلَ الإنتخابات، 13 نائباً، أصبحَ هذا الرّقمُ يناهزُ 19 ناجحاً، وبتفوّق. وإِنْ في عددِ الأصواتِ التفضيليّةِ التي نالَها مرشَّحوها، إذ تعدّى 190 ألفَ صَوت. في حين هبطَ مخزونُ كتلةِ التيّارِ الباسيليّ من 29 نائباً، الى 18 ناجحاً، أكثرُهم بأصواتٍ مُتَسَوَّلَة، وغيرِ مسيحيّة، ولم يتجاوزْ عددُ الأصواتِ التفضيليةِ التي حصلَ عليها مرشَحو كتلةِ هذا التيّار، مجتمِعين، 120 ألف صَوت. واستناداً الى حقيقةِ الأرقام، كان بديهيّاً الإستنتاجُ بأنّ التّمثيلَ المسيحيَّ قد عبرَ من ضفّةِ التيّار المُشَوِّهِ والمُشَوَّه، الى ضفّةِ القوّاتِ التي تمثِّلُ مجتمعَها بالتزام، وبشكلٍ سليمٍ وصحيحٍ لا تشوبُه شائبة، ما أفقدَ حيثيّةَ الدّويلةِ المسلَّحةِ غطاءَها المسيحيّ، وبدَّدَ حلمَها بأنّ زمنَها سوفَ تبعثُهُ الإنتخاباتُ حَيّاً.
أمّا ما ارتُكِبَ من موبِقات، على صعيدِ التعدِّيات، والتّهديدات، والتّرهيب، والتّزويرِ الموصوف، وقَلبِ بعضِ النتائجِ لمصلحةِ الفريقِ المُناهِضِ للسيادة، ولكرامةِ الوطن، فكلُّ ذلك لم يستطعْ إبقاءَ لبنانَ في حقلِ التّفخيخ، وعصرِ القَبَليّة، وزمنِ التّآمر، ومرحلةِ ما قبل الدولة، وانهيارِ مؤسّساتِ النّظام، والإستقواءِ المدَمِّرِ للكيان. إنّ ما حصلَ، بواسطةِ الإنتخابات، هو تظهيرٌ لمشهدٍ لبنانيٍّ جديد، غيرِ مُرتَهَن، ولا مُفَكَّك أو مُشَوَّش، عَرّى عصاباتِ الفسادِ، الأصلِيّينَ منهم والطّارِئين، وأدخلَ الوطنَ في كَنفِ السيادة.
أيّها السياديّون، نحن معكم في يقظة، إِحكموا، وَلْيَكُنْ في حكمِكم مَلمَحُ الإستقلالِ الثالث.