قراءة في “أيّام العتب” لسخاء جنّود
لطالما أدهشتني الوجوه.
أحمل كاميرتي، وأسير في الشّوارع، أطارد الملامح، فألتقط خِفية صورًا لوجوه، تظلّ تخبرني قصصها، وحكاياها الّتي لا تنتهي، ما دمت أنظر إليها.
ولكم نشأت علاقات قويّة ومتينة بيني وبين وجوه صوّرتها.
أذكر أنّي أحببت فتاة هنديّة، كنت قد صوّرت وجهها في نيودلهي، ذات سفرة إلى الهند، دون أن أتحدّث إليها.
كما أذكر وجه حاجّ أفغاني، صوّرته في المدينة المنوّرة، ظلّ يناديني، وقد طاردته قرابة السّاعة بين آلاف الزّوار.
وأكثر الوجوه الّتي لا زالت ترافقني تقاسيمه وجه طفل، كنت قد صوّرته يلعب في أحد مخيّمات النّازحين.
حتّى رأيت هذه اللّوحة على صفحة الصّديقة سخاء جنّود، وقد أخبرتني أنّ اسمها “أيّام العتب”
لا أدري طبيعة السّر الّذي دفعني إلى التّعلق بهذا الوجه اللّوحة!
لعلّه كما قال نجيب محفوظ في ردّه على سؤال لأنيس منصور: “ماذا أفعل إن كنتُ من زمرة الإنفعاليّين؟! ”
وربّما يعود الأمر إلى كوني من عشّاق الطّين، ولي سُمرة ترابيّة لها كثير من ألوان هذا العمل، وقد ألفت رؤيتها في مرايا الصّباح.
ما لفتني في هذا العمل هو اللّا مكان، الّذي ينتمي إليه هذا الوجه في خلفية اللّوحة المفتوحة على تأويلات لا تنتهي.
وجه مليء بالأزمنة الدّاخلية، الّتي تكاد تلغي كلّ الزّمن الخارجي الواقعي للعمل، رغم تسميتها “أيّام العتب”، وما للزّمن من حضور محدود في كلمتي أيّام وعتب.
عينان لا أملك خيارات كثيرة في قراءة نظرتها، فبين العتب، والغضب، والسّخرية، والاستغراب، يكاد يلغي حزن دفين في أعماقها كلّ الأزمنة الدّاخلية الّتي تعكسها.
وفم طال انغلاقه على ما لم يعد يجدي قوله، لذا تقلّصت شفتاه إلى حد العزوف عن رغبات كثيرة.
لتنحدر كافّة ألوان اللّوحة من درجات التّراب.
لا أعرف إن كانت بشرة هذا الوجه قد تعرّضت للبهاق، فإن كان قد حصل، فلا غرابة في الأمر، لما للعتب من مفاعيل نفسيّة على مناعة الجسد والنّفس.
وإن كنتُ قد بالغت في انطباعاتي خلال قراءته، فالثّابت الوحيد أنّ أيّام العتب طالت إلى درجة، أنّ ما تراكم فوق الوجه، حجبَ كثيرًا ممّا يسكن فيه.
انكسار في نظرة العيون، وانحناءة ضعف في الرّأس جهة اليمين، ومساحة ضيّقة جدًّا من رداءٍ سماويّ اللّون، فوق الكتف الأيمن، ربما كان دلالة على إحالة الأمر إلى السّماء، بعد أن سقط الرّجاء بمن أثقلوه بالعتب.
لا أدري إن كانت المبدعة سخاء جنّود قد حجبت عمدًا موطن الأنوثة الأبرز، بحجب أعلى الصّدر، أم أنّها مجرد مصادفة، ساقها تركيزها على ثلاثة مفاتيح لعلاقة اسم اللّوحة بتقنيّات تنفيذها:
الفم والعينان
الشّعر الكستنائيّ المهمل.
وغياب القفزات الحادّة بين ألوان اللّوحة، والّتي أتت في غالبها ضمن درجات ترابيّة متقاربة، تؤكّد المزاج النّفسي للعمل، وربّما لجنّود.
في النّهاية، لست أنا من قرّر الكتابة عن هذا العمل.
فقد تجاهلته لأسابيع. لكنّه ظلّ يتحدّث إليّ، ويلحّ في حواراته الدّاخليّة عليّ، الّتي اتّخذت شكل ومضمون هذا النّصّ، الّذي لا أعرف أنا نفسي ماهيّته.
لكنّه وكما أتوهّم تتمّة لأيّام العتب، الّتي فتحت أبوابها سخاء جنّود على التّذوّق، وأنا متذوّق وجوه نهم.