كارثة “العقل الجَمعي” عند المسيحيين والمسلمين
يحلو لنا نحن اللبنانيين، والعرب عموماً بمسيحييهم ومسلميهم، التغني بالتاريخ المنتقص من كل حقائقه. نذكر الأمير بشير الثاني الكبير، أو الفينيقيين أو خالد بن الوليد أو هارون الرشيد أو فخر الدين الثاني الكبير (لا أدري لماذا الكبير)، أو يوسف بك كرم، أو صلاح الدين الأيوبي، بهالات فخر وإعجاب لبعض أعمالهم، ونطمس أن زمانهم ملآن بالتخلف والأنانية وقلة الرحمة وأنهم في كثير مما قاموا به وبميزان اليوم، جريمة تصل الى حد جرائم ضد الإنسانية! صحيح لكل زمان ميزان، ولكن “عقلنا الجَمعي” بدلاً من أن ينكب على دراسة كل جوانب تاريخنا، بسيئاته والحسنات، ترك شيطنة شخصياتنا على عاتق من يكرهها أمس واليوم، وتمجيدها على عتاق محبيها. فجاء النقد الهدّام ليعطل النقد البنّاء. ولن يصطلح لنا حال إن لم نُعِد قراءة الأفكار والمعتقدات والتقاليد والتراث، قراءةً نقدية صارمة، تتقدمُّ على قراءة الأحداث، وتتعمق في نقد منابع تراث فكري لا نزال نعاني تبعاته لليوم. فتقدمُ الشعوب يقوم على النقد العلمي لأفكار الماضي ومعتقداته ونزع القدسية عن شخصيات ربما يجب أن نخجل من أفعالها! ومن الحقائق المُرة، أن العقل الجَمعي للمسيحيين سيطر عليه العقل الجَمعي للمسلمين والذي يسود منذ أكثر من أربعة عشر قرناً. يحلو لنا الكلام على دور لرواد مسيحيين في الثقافة زمن العهود الإسلامية، ثم في محاولة تغليب فكر غير إسلامي دار حول أنواع من “عروبيات” و”سوريات” و”ماركسيات”. كل تلك الالتفافات عجزت عن التأثير في جذور المجتمعات. حتى الأحزاب التي رفعت شعاراتها، مارست أبشع السلوكيات. ما هو هذا” العقل الجَمعي” الإسلامي الذي أصاب المسيحيين والمسلمين بكوارثه؟ أكتفي هنا بكارثة فكرية عظمى، هي كارثة “الأُحادية”. لقد شوًًَّه رجال التراث المعروفون بالفقهاء، مقاصد النص الديني، ووضعوا فيه ما ليس منه. من أهم مرتكزات هذا النص “وحدانية الله”. رسالة الرسول محمد أن”لا اله إلا الله” وكل ما عدى الذات الالهية، تعددي ومتنوع ومختلف. هكذا قال النص وهكذا مارس محمد. لأسباب متعددة خان الفقهاء فكرة التوحيد بأن أشركوا مع الله الفكر “الأُحادي”. وابتلينا بأفكار المجتمع الواحد والدين الواحد واللغة الواحدة والأمة الواحدة. يمينيون ويساريون، دينيون وعلمانيون، مسيحيون ومسلمون، أوغلنا في كارثة الرأي الواحد والحزب الواحد والقائد الواحد والكتاب الواحد، والنظام الواحد. وسقطنا ومن مئات السنوات الى هاوية التخلف لأن “الأُحادية” تمنع تنوع المعارف عن العقل الجَمعي، وكيف لسفن حضارتنا أن تمخر العباب ولا تضرب أشرعتها رياح شرقية أو غربية، شمالية أو جنوبية؟ بسبب هذا العطب هناك مسيحيون ومسلمون في لبنان مصابون بطاعون فكري يقوم على الدمج والتذويب في كل شيء، فلا يكتفون مثلاً برفض الفدرالية، بل وبسبب عقلهم الجَمعي الأُحادي المعطوب يشيطنونها. وهناك من عن جهل او خبث لا يحبذ اللامركزية الموسعة وهناك مثلا ًمن النواب الجدد، كأنهم سقطوا من كوكب عطارد ويعيشون حالياً على كوكب المريخ! تفاعلت كيمياؤهم السياسية وأنتجت الصدأ الفكري و”الحماقة المفيدة”. وبعقلهم الأُحادي وضعوا الكل في علبة واحدة، وخلطوا في علبة أخرى أفكاراً نظرية علها تخرج بدواء واحد يصلح لكل الأمراض اللبنانية. ومن آخر “أُحادياتهم” رفضهم انشاء بلديتين للعاصمة بيروت. لا لسبب إلا ليجاروا موجة الدمج والأُُحادية العبثية. ابحث عميقاً تكتشف أن “فقهاء العقل الرجعي” لا يزالون أحياء يرزقون ولا تزال مجتمعاتنا في سبات عمره أكثر من 1400 سنة، يتخلله أحياناً نهضات لا تلبث أن يقتلها بعنف العقل الجَمعي الاسلامي الذي انجر اليه المسيحيون وهم لا يدرون، وأحياناً كانوا رأس حربته!