كتب أنطوان نجم: “… ونبقى”

في أزمنة الاسترخاء والأهداف المحقَّقة، ننسى أنّ الشعوب تمرّ بصعود وهبوط، ونجاح وفشل، وفرحٍ ومآسٍ.

ليس في حياة الشعوب خطّ تصاعديّ دائم. خطّ حياتها متعرّج، يلتوي بين أبعاد المكان والزمان. يشوبه الإقدام والانكفاء، والسرعة والبطء، ولحظات الجمود والغليان…

فمن تصوّرَ أن الظروف تضحك له أبدًا، أو تعبس في وجهه دومًا، أخطأ كلّ الخطإ، وبَعُدَ من معرفة التاريخ وجهل ما يمكن أن تحمله الأيام الآتية.

إنّ من الضروريّ أن نُتْقنَ قراءة الأحداث في حال كنّا ملتزمين قضايا مجتمعنا وحاملين همومه. إنّ من قِيَم الالتزام ألّا نسكر يوم النصر، ولا يُغمى علينا يوم الهزيمة. وبراعة الإفادة من السنوات العجاف تحاكي في أهمّيّتها حسن الإفادة من سنوات الخصب، وهما، كلتاهما، قُدْرتا تثميرٍ تبنيان المستقبل وتقيمانه على دعائم صامدة.

تجول في بالنا هذه الخواطر ونحن نرى أكثر من جماعة من أبناء مجتمعنا يائسة، محبطة، متقزّزة من كلّ ذي علاقة بالشأن السياسيّ، مستقيلة من الوجود الفاعل المؤثّر.

لهؤلاء الإخوة والأبناء نقول:

1. علينا أن نتحرّر من وهْم جسيم جرّنا إلى بعض ما نحن فيه.

2. علينا أن نشفى من مرض خطر نخرنا حتى العظام.

3. علينا أن نتشبّث بأرضنا.

4. علينا أنْ نعيَ ماهيَّة قضيّتنا بدقّة.

1. منذ قرن ونصف القرن، أُدخل في روعنا زورًا أنّنا في حماية أقوياء العالم، وأنّهم في تصرّفنا، خاضعون لرغباتنا، حريصون على مصالحنا. فحملَنا الغرور والوهم والادّعاء على التخبطّ خبط عشواء في علاقاتنا، وعلى الاستهتار بارتباطاتنا، وعلى الوقوف تجاه العالَم موقف الواعظ من علُ، والناصح، وحتى المهدِّد أحيانًا، بينما نحن في أشدّ الحاجة إلى العظة والنصيحة والكفّ عن اللعب في أمورنا. وجهلنا أنّ توافق المصالح وتعارضها هو المعيار الذي يحدّد نظرة العالَم إلينا. وويلٌ لمن لا يعرف كيف يدخل في لعبة توازن القوى ومصالح الكبار والأقوياء بغية تحصين أهدافه.

2. تاريخنا مشحون بالصراع على السلطة والنفوذ، وبالأحرى على التفرّد بهما، وكأنّما الساعي إليهما اختاره الله ليكون المتقدّم الوحيد الأوحد في مجتمعه. فلم نعرف أن نقبل بعضنا بعضًا، ونسينا أنّ المجالات متيسّرة لكلّ ذي طموح. فتحالفنا حتى مع الشياطين لنغلب أخصامنا ونصل إلى غاياتنا. وحجَبنا بصيرتنا عن كلّ حقّ وعدل، وتركنا حقدنا يقود خطانا. فسال الدم مدرارًا في ما بيننا، ووقعنا جميعنا في الهوّة العميقة، ودمّرنا ما بنيناه والآباء والجدود بعرق الجباه ودماء الشهداء.
إنّ التنافس من طبيعة البشر. وهو شرعيّ وضروريّ، وإلّا لما تحقّق تقدّم. ولكن اعتبار المنافس عدوًّا لا بدّ من إزالته، وبأيّ وسيلة، هو نقضٌ لقانون التنافس وابتعادٌ عن الإنسانيّة واندفاعٌ في منزلق الهمجيّة.التنافس يفترض القبول المتبادَل والاحترام المتبادَل والخضوع الهادئ لما تفرزه الديمقراطيّة الصحيحة بالممارسة الصحيحة.

3. والهجرة هي من أخطر ما يهدّدنا. إنّها تضعفنا عددًا وقدرات. تخلق فراغًا. والفراغ يملؤه سوانا على حسابنا. بالهجرة تزول قضيّتنا. قضيّتنا مرهونة ببقائنا هنا، بتشبّثنا بأرضنا لا في الاجتماع في الخارج. الهجرة نزيف يستلّ منّا الحياة على مهل وعلى نحوٍ مؤكّد. الهجرة ليست الموت فحسب، بل هي الاضمحلال. فكم كبيرة خطيئتنا إذا سمحنا بالهجرة، وكم هي أكبر إذا شجّعناها، فننهي وجودنا بإرادتنا ووعينا.
وفضلًا عن ذلك فإنّ للمسيحيّين دور شهادة للمسيح في هذا الشرق. إنكفاؤهم عنه هروب وخيانة وتنكّر لإيمانهم. جذورنا في هذا الشرق أعمق ممّا نتصوّر، إنّنا جزء أصيل منه. وهو جزء أصيل منّا. فكلّ انسلاخ عنه انسلاخ عن الذات. وماذا يبقى من الذّات إنْ هي انسلخت عن ذاتها؟

4. قضيّتنا أن نحيا أحرارًا، بكلّ ما في الكلمة من جوانب وأبعاد وأعماق، في نظام ديموقراطيّ حقيقيّ يقوم على معايير “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان” وسائر الشرعات المكمّلة له. إنّها من مسائلنا الأولى وهواجسنا الأساسيّة وأهدافنا المركزيّة.
الذّمّيّة، نصوصًا وأجواء، وحتى ممارسةً غير مباشرة، نرفضها رفضنا لشرّ كبير. إنّها طعن للحرّيّة، واغتصاب للحقّ، ونقضٌ للمساواة.
ترجمة الحياة الحرّة تكون بأن يحيا كلّ مواطن وفقًا لضميره ولاقتناعاته من غير أن يمسّ مواطنٌ مواطنًا آخَر في حرّيّة ضميره وفي اقتناعاته، ومن غير أن يهيمن أحدٌ على أحد. لذا كان شعارنا وسيبقى: حرّية، مساواة، عدالة.

عندما تشتدّ العاصفة تأخذ في طريقها من يعاندها. المعاندة شيء، والمقاومة شيء آخر. المعاندة تشبّث بوسائل ما عادت صالحة ولا مثمرة في ظروف معيّنة وفي أحوال محدّدة. أمّا المقاومة فسعيٌ دائم للهدف، إنّما بوسائل تراعي الظروف والأوضاع المستجدّة.

السنديانة الكبيرة المتكبّرة اقتلعتها العاصفة العاتية. أمّا القصبة الهزيلة فنجت بانحنائها عند مرور العاصفة لتعود وتنتصب بعد زوالها.

هذا ما ينبغي أن نتأمّله. ونضيف إليه كثيرًا من الحكمة والأصالة والهدف. فيتوافق سلوكنا وإيماننا، ويكون مثلُنا الصالح أبلغ كلام ودعوة ورؤيا.

ألا فلنتأمّل.

Exit mobile version