لنفترض. أو لنتذكر. عندما عاد المسيحيون الى قراهم بعدما تَهجَّروا منها لسنين، ماذا عَمَّروا أولاً؟ الكنيسة؟ أم مبنى البلدية؟ طبعاً الكنيسة. في بعض القرى اهتمَّ المسلمون بإعادة بناء مسجدهم، وتركوا مسألة مساكنهم الى أَجَلٍ آخر! هناك مئات القرى بلا بلدية، ولكن لا يوجد قرية في لبنان ليس فيها كنيسة أو جامع. ثمة قرى كنائسها لا تفتح يوم الأحد، لعدم وجود عدد كافٍ من المؤمنين. لماذا يبني اللبنانيون كنائسهم ومساجدهم قبل مبنى البلدية؟ من المفترض أن البلدية تساعد أكثر من الكنيسة أو المسجد، في إنماء القرية وتسيير شؤونها، ورغم ذلك يشعر اللبنانيون أنهم ينتمون الى قراهم عند بناء بيوت الله لا بيوت الدولة. الدول عابرة ومتغيرة. اليوم هي الجمهورية اللبنانية. قبلها كانت المتصرفية. وقبلها ولايات اسلامية، وسنيوريات صليبية ومقاطعات رومانية الخ… معبد وثني تحول كنيسة. والكنيسة تحولت جامعاً. وما من أحد راودته يوماً فكرة تحويل الجامع مبنى وزارة أو مركز إطفاء أو بلدية! هكذا كنا، وهكذا سنبقى.
هذا “اللبنان”، يمكن أن يصبح دولة علمانية، في حال حصل السيناريو الآتي. صاعقتان ضربتا في ليلة واحدة البلدية والكنيسة. هبط سقف البلدية وطارت قبة الجرس. عند الصباح سارع أبناء القرية الى ترميم البلدية، وتركوا ترميم الكنيسة الى ما بعد. هذا السيناريو لن يحصل ولو صارت دولتنا علمانية أكثر من فرنسا!
مناسبة هذه المقالة، الانتخابات البلدية في معناها التاريخي. القصة أبعد من العائلات والأحزاب. ثمة حماسة مستفحلة في كل القرى والمدن والبلدات لخوض هذا الاستحقاق الديمقراطي. أنه استحقاق لامركزي بامتياز. فدرالية مصغرة، تحمل في طياتها بذور العلمنة. فبحسب القانون، التوزيع الطائفي غير موجود في الانتخابات البلدية. في القرى المختلطة، ينتظم التوزيع الطائفي للمجالس البلدية بسلاسة أكبر مما يحصل في مجلس النواب أو مجلس الوزراء. في القرية المختلطة، اذا ارتاحت الكنيسة والجامع الى وضعهما، زايد الخوري والشيخ في ضرورة احتضان الجميع، وتبارى المرشحون في تقديم أفضل ما عندهم لتحسين القرية.
وبعكس ما يُشاع، البلدية “مؤسسة سياسية” بامتياز. إن لم تكن السياسة انتخابات وإنماء وثقافة، فماذا تكون؟ عندما لا تكون السياسة على صورة دور البلديات، نكون في “الطائفية السياسية”، التي نريد إلغاءها لتغليب طائفة، أو إبقاءها لتغليب طائفة أخرى! هل هذا هو لبنان الحضارة والمستقبل؟ لقد وصلت أبلسة اللامركزية والفدرالية الى درجة اعتبار انتخابات البلديات “شأن ضيعوي” (من ضيعة)، فقط لأنها حجر أساس في اللامركزية المطلوبة. عندما ترتاح الطوائف تتحرر أيادي البناء والإعمار. فالطوائف في “بلدياتها” مطمئنَّة الى مصيرها، بلا جميل “الطائف”، حيث الشراكة مفروضة والعيش المشترك مُفتعل!