لماذا انتحر بيار الصقر بعدما كان يبدو فرحاً قبل يومين وهو يصوّر طبيعة بلاده الجميلة؟
قسّمت الأبحاث أسباب الانتحار الى نفسية ووراثية وبيولوجية واجتماعية. وقد أطلق اميل دوركهايم، منذ سنة 1897، عجلة الابحاث الاجتماعية حول الانتحار، مبيّنا أن التفسخ المجتمعي، الذي ترافق مع ضعف أواصر التضامن بين الناس في أوروبا، بنتيجة الصناعة والنمو المديني وانحلال الروابط التقليدية، ترك الأفراد وحيدين ومعزولين وخائفين، مما دفع بعضهم الى الانتحار.
ستكون مجازفة علمية كبيرة، محاولة الخروج بفرضيات حول أسباب تفاقم ظاهرة الانتحار في لبنان اليوم. فلا الاحصائيات المتوفرة، بمعطياتها السوسيوغرافية والشخصية حول المنتحرين، تسمح بذلك، ولا البنية المجتمعية المتحولة الى حالة من الانهيار الشامل، تساعد على تحليل الظاهرة، بالمقارنة مع الظاهرات نفسها في مجتمعات أخرى يغلب فيها اشتغال أنظمتها، وحيث يعم فيها، رغم الصراعات داخلها، استقرار نسبي في العلاقات الاجتماعية- الاقتصادية – السياسية. مع العلم ان أطروحة دوركهايم الأساسية حول التأثير الكبير للتفكك المجتمعي على ظاهرة الانتحار، تفتح أفقاً واسعاً لفهم الظاهرة في مجتمع يشهد انهياراً على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاخلاقية كافة.
سأكتفي مرحلياً، بالتأمل بما كتبه بيار الصقر قبل انتحاره مباشرة، بعدما سلك الطريق التي سبقه إليها قبل أيام قليلة مواطنوه: محمد ابراهيم وحسين مروة وعلي ابو حمدان وموسى الشامي، اذ أطلقوا جميعهم النار على أنفسهم. المنتحرون لم يتركوا وراءهم كما بيار، ما يفيدنا حول ما كان يدور في ذهنهم قبيل انتحارهم، باستثناء موسى، الذي أوصى صديقه بكلمات قليلة، في تسجيل صوتي، الاهتمام بعائلته التي لم يعد يستطيع إعالتها.
أورد في الملاحظات الآتية، أكثر ما لفتني في ما كتبه بيار الصقر في آخر بوست له قبل وفاته:
1- كتب بيار بوسته الأخير وهو يبكي: “وحياة الله عم بكتب هالأسطر وعم بشهق بالبكي”، قالها في نهاية نصه. ربما ليبلغنا انه لا يقدم على الانتحار، المحرّم دينياً، وهو مرتاح الضمير. ربما ليلفت انتباهنا أن المنتحر يبكي على نفسه، أي يحبها، حتى وهو يقتلها. كأنّ بيار يخشى ألا نصدقه نحن “الصامدين”، فيحلف لنا: “وحياة الله”. ألا يبدو كالطفل يحلف بالله أمام أبويه انه لم يرتكب خطأً؟
2- استغربت ايحاء بيار، وهو يعلِمُنا بقراره الانتحار، انه لم يفقد الامل كلياً من العيش في هذه الدنيا: “الأفق تسكر امامي تقريباً” و”الأفق شبه مسكّر”. كلمتا “تقريباً” و”شبه”، تتركان منفذا في الأفق. هل كان ينتظر أن يحدث شيء فجأة يعطّل قراره، ام انه كان لا يزال خائفاً متردداً؟
3- اعترف لنا بيار بأنه كان ينتظر إشارة من مار شربل، اذ كان يزور عنايا أسبوعياً، ويصلّي للقديس كل ليلة قبل أن ينام ويطلب منه ان “يفتحها بوجّي”. “واذا لا، لـ”الله ياخدني”. لكن “ما لقيت ولا اشارة امل”، “فقررت انا روح لعند الله”. على الارجح أن بيار كان لا يزال ينتظر هذه الإشارة الى آخر لحظة.
4- بيار ملتزم في حزب “القوات اللبنانية”، كما هو ملتزم دينياً كمسيحي. في كلمته الاخيرة يجدد ثقته بقيادة “القوات” الحالية وإيمانه بقضيتها. وباستثناء بعض العتب الضمني على مار شربل، لا يظهر من بيار أي امتعاض او انكساف من دينه، أو أي شك في قدسيته. الاحساس بالانتماء السياسي- الديني- الطائفي عند بيار، يبدو صلبا. كما أنه يعبّر عن علاقات عائلية قوية تربطه خاصة بأبيه وبإخوته. رغم ذلك، كل شبكة الأمان النفسية هذه، لم تمنع بيار من الاقدام على الانتحار. لماذا؟
5- الهاجس الاول عند بيار هو وضعه المعيشي الذي يبدأ به كلمته: “بعد كم يوم بكون صرلي ثلاث سنين مسكر شغلي بسبب الازمة وقاعد بالبيت ناطر الوقت والفرج. خلال شهرين بدي سلّم المعمل وبالطبع ما معي جدِّد إيجار وعندي مشاكلي الصحية”. اختصر بيار مشكلاته الأساسية بهاتين الجملتين. ولخّص التحدي الوجودي الذي يواجهه بهذه الجملة: “انا بقى ما فيني عيش بدون قدرة على انشاء عيلة، اهتم بأخواتي المحبين، بوالدي يللي بفتخر جدا فيه، معنوياتي ما بتسمحلي استمر هيك والاوضاع باتجاه الانهيار اكتر، ما فيي عيش بدون ما تابع خدمة القضية”.
تتوضح هنا اكثر معاناة بيار: صحيح انه يحافظ على انتماءاته العائلية والطائفية والدينية والسياسية، الا انه عاجز عن إيفائها حقها عليه. قال بأسى: “صرلي شهرين عم بحس بحزن كبير وعم ب زيد، والحزن صار اقوى مني”. لم يعد في إمكان بيار أن يكون كما كان، أن يكون في مستوى نفسه والتزاماته، فحزن حزنا شديدا وانتحر.
“معنوياتي ما بتسمحلي استمر هيك”، وكلمة “معنوياتي”، ربما تختصر احساسه بكرامته وبفائدته الاجتماعية، اللتين لم يعد باستطاعته الحفاظ عليهما.
6- إحساسه بالعجز في ان يكون بمستوى نفسه، جعله يشعر بالذنب تجاه عائلته و”قضيته”، ويطلب منهما السماح: “بطلب من اهلي واخواتي وعائلاتهم المحبة السماح… يتفهموني. وبعتذر من شباب القوات اللبنانية والسياديين الشرفا اني ما رح كون موجود وقت ينادي الواجب”.
أعتقد أن هذا الشعور بالذنب، هو الذي دفعه إلى اختيار وسيلته للانتحار: “ما بقى فيي كمّل، جبت معي بارودتي، (يللي هي امانة من القضية عندي)”. قتل نفسه بـ”أمانة القضية”، وكأنه يعاقب نفسه على عدم قدرته على الاستمرار في العيش واستخدام هذه الأمانة “وقت ينادي الواجب”.
7- حدّد بيار بوضوح ما يعتبره السبب الجذري لانتحاره، فخاطب القواتيين: “اعتبروني شهيد او بالضبط ضحية الانهيار يللي ورا كتلة الشر المعممة بالاسود يللي مخباية تحت الارض بالضاحية، انا ضحيتو وضحية توابعو الفاسدين، الحرامية يللي تواطؤا معو مقابل المال والسلطة، المسيحيين منهم قبل المسلمين”. لا يأمل بيار في امكان وقف الانهيار، رغم ايمانه “بقضيته”، التي بحسب رأيه، تواجه الطرف الذي تسبب بالانهيار. فـ”الاوضاع باتجاه الانهيار اكتر”. كأنه يبشرنا بأن ضحايا الانهيار سيتكاثرون، ويلتحقون به.
استغرب أحد الاصدقاء، اقدام بيار على الانتحار، اذ انه كان يبدو فرحاً، قبل يوم أو يومين، وهو يمارس هوايته بالتصوير، بالقرب من شلالات المياه، في إحدى البلدات.
لا تستغرب يا صديقي، فهذا يعني أن شبح الانتحار يتنزه بيننا، دون أن تسمح لنا سخريتنا اليومية على أوضاعنا وعلى أنفسنا، أن نلاحظ وجوده.