لم نكن قد دخلنا زمن الرّايات حينها.
كنّا شعبًا مشوشًا، ينفق عمره في خدمة أيديولوجيات العالم كلّه، لكن بدون رايات.
حتّى اللّه بالنّسبة لنا، كان وقتها مشتّتًا مثلنا، يقاتل على أكثر من جبهة وبأكثر من بندقيّة ضد الّله الّذي كان في الجبهات المقابلة.
أمّا أنا فكنت قد عدت من برالياس، وقد طارت منّي كل تلك الرّغبات الّتي أمنيت نفسي بها.
سقط منّي الكيس الّذي عبّأته بأثداء ومؤخّرات وأجساد نساء عاريات، على صفحات مجلّة، كانت بآخر إصداراتها وآخر أعدادها.
وصلت إلى البيت بغيري.
كانت دودة الخيبة قد نخرتني، كما نخر السّوس باب غرفتي الخشبيّ من الأسفل، فأسد فراغه شتاء بما يتوفّر من سراويلي وبناطيلي وستري القديمة الممزّقة البالية.
أحاول أن أتذكر أين فقدت الكيس.
ولجت في سريري الّذي بات كال ن، إذا تكورت فيه، بدا لمن يبحث عنّي أنّي لست هناك.
لكنّي نهضت أفتّش في جيوب بنطالي وسترتي، دون أن أجد إلّا بقايا الدّم الذي لطّخهما.
قلت في نفسي:
“ليكن ضياع تلك المجلّة فداء لعيني عون، ما دام أنّه سيحرّرنا من الاحتلال السّوري”
أدرت المذياع بجانب رأسي، ورحت أنقّل مؤشره بين المحطّات، أفتّش عن خبر يدنينا من الانتصار.
انهالت طرقات أبي فوق الجدار، يصرخ مردّدًا:
“بدنا ننام”
أغلقت المذياع، وأنا أشتم الأميّة والجهل والتّخلف والأبوّة كلّها.
ولأهدّىء من قلقي وخيبتي وثورتي التّافهة، التقطّت مجلّة قديمة، قلّبتها، نظرت إلى صورها، وأنا أتحسر على ما فقدته متمنّيًا أن تعوّضني قذائف عون عمّا أضعت.
مارست العادة السّريّة، عليّ أتخلّص من آثار الموت الّذي شاركت في لمّه من الطّرقات.
استمنيت على نوريّة، كنت قد عرفتها في مراهقتي، نوريّة من نساء أولئك الّذين صارت مآساتهم مدعاة سخرية وضحك بين النّاس، كلّما ردّد أحدهم:
نور يا عون…