“محاصرون في دوامة الانهيار”.. آلاف الأطفال في لبنان تحت تأثير الأزمات
حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من التأثير “المدمّر” للأزمات المتفاقمة في لبنان على الأطفال، مشيرة إلى التدهور المتزايد في معظم جوانب حياتهم، جاء ذلك في تقييم أجرته في نوفمبر 2023 تحت عنوان “محاصرون في دوامة الانهيار”، شمل إضافة إلى الأطفال اللبنانيين، اللاجئين الفلسطينيين والسوريين.
وبحسب تقييم “اليونيسف”، تحرم الأزمات، الأطفال في لبنان بشكلٍ متزايد من التعليم وتجبر الكثيرين على التوجه إلى العمل، في محاولة يائسة من أهلهم للصمود وسط التحديات الشديدة والتناقص المستمر للموارد والأساسيات، حيث يجوع الأطفال ويعانون قلقاً واكتئاباً.
وزاد تمدد الحرب الإسرائيلية في غزة إلى الحدود الجنوبية للبنان، من الأعباء النفسية لا سيما بين الأطفال الذين هم في مواجهة التصعيد العسكري، وعلى اللاجئين الفلسطينيين الذين لديهم أقارب ومعارف في غزّة، كما ورد في التقييم.
وقال ممثل اليونيسف في لبنان، إدوارد بيغبيدر، “هذه الأزمة الرهيبة تدمّر أحلام آلاف الأطفال وتنتهك طفولتهم وتسلبهم حقهم في التعليم وسعادتهم ومستقبلهم”.
حرمان مؤلم
أدت الأزمة الاقتصادية بحسب ما تؤكد رئيسة جمعية “نضال لأجل الإنسان”، ريما صليبا، إلى “اختفاء الطبقة الوسطى وظهور نوع من الطبقية بين سكان لبنان، وهو ما أشارت إليه تقارير عدة”.
وشددت صليبا، في حديث لموقع “الحرة”، على أن ذلك “أثرّ بشكل كبير على الأطفال، ففي وقت يحصل فيه بعضهم على حقوقهم الأساسية إضافة إلى الكماليات، يُحرم في المقابل الغالبية منهم حتى من حقوقهم الأساسية كالتعليم والصحة والغذاء، وكذلك من حقهم باللعب، وهو حق أساسي بالنسبة لهم وحاجة ضرورية لنموهم بطريقة سليمة”.
كذلك تؤكد الخبيرة بالحماية الأسرية، رنا غنوي، في تصريحات لموقع “الحرة”، على أنه قبل الأزمة الاقتصادية كان الأطفال في لبنان يتمتعون بحقوقهم وبراءتهم، وفي ظلها أصبحوا شركاء في تحمل عبئها وتبعاتها، من خلال الطلب منهم الاستغناء عن بعض مظاهر الرفاهية أي تفهّم الانتقاص من حقوقهم، ما يدفعهم في اللاوعي إلى التساؤل عن الذنب الذي ارتكبوه من دون أن يضعوا اللوم على أهلهم”.
وكشف الاستطلاع الذي أجرته اليونيسف أن أكثر من ربع الأسر أي نسبة 26%، لا ترسل أطفالها الذين هم في عمر الدراسة، إلى المدرسة، وهذه النسبة ارتفعت عن آخر تقييم مماثل أجرته في أبريل 2023 حيث كانت النسبة 18%، ومما زاد الأمر سوءاً، إغلاق عشرات المدارس في جنوب لبنان أبوابها منذ أكتوبر بسبب التصعيد العسكري، ما أثّر على أكثر من 6000 طالب.
يذكر أن مضاعفة أقساط المدارس الخاصة ما بين 200 إلى 400 في المئة، أجبرت عدداً من الأهالي على نقل أطفالهم إلى مدارس أرخص، في حين سجّل بعضهم أسماء أطفاله رغم عدم يقينهم بقدرتهم على تسديد الأقساط، في وقت لا قدرة استيعابية للمدارس الرسمية، “التي يعاني طلابها – الطلاب السوريون ضمناً” بحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش” “من الفوضى منذ أربع سنوات، إذ تسرّب 27% منهم في العام الماضي وحده”.
حقوق الأطفال غير قابلة للمساومة، كما تشدد مديرة جمعية “مفتاح الحياة”، الأخصائية النفسية والاجتماعية، لانا قصقص، في حديث لموقع “الحرة”.
وتضيف “يجب أن يحصل كل طفل على التعليم، فحرمانه من ذلك يؤثر على كل جوانب حياته، منها الجانب الصحي، الجسدي والعقلي والذهني، حيث يلعب التعليم دوراً في نمو الخلايا العصبية، أي تطور الطفل الفيزيولوجي، كما يؤثر على انخراطه في المجتمع بشكل فعال وكذلك على دوره المستقبلي في تطور بلده”.
تدابير يائسة
تستمرّ الأسعار في لبنان بالارتفاع ومعها يبرز انتشار الفقر، ما يُجبر الأسر بحسب اليونيسف إلى اللجوء لتدابير يائسة من أجل تحمّل كلفة وجبة غذائية واحدة فقط يومياً وتوفير المأوى الأساسي، من هذه التدابير إرسال أطفالهم إلى سوق العمل، أو اقتراض المال أو الشراء بالدين للحصول على المواد الغذائية الأساسيّة.
وأظهر الاستطلاع أن أكثر من 8 من كل 10 أسر (أي 84% منها) اضطرت لاتخاذ خيار اقتراض المال أو الشراء بالدين، بزيادة قدرها 16 نقطة مئوية على مدى ستة أشهر.
وهو ما تؤكده صليبا، بالقول “في ظل ارتفاع أسعار اللحوم والأجبان والفاكهة والخضار، بالكاد يتمكن بعض الأطفال من الحصول على وجبة واحدة يومياً تتركز على المعجنات، أي لا تتضمن أي من العناصر الغذائية الأساسية والضرورية لنمو جسدي سليم”.
وأفاد تقرير البنك الدولي، حول الأمن الغذائي، بأن لبنان حلّ في المرتبة الثانية ضمن قائمة الدول الأكثر تضرراً من تضخم أسعار المواد الغذائية للعام الحالي 2023، بنسبة 31%، مسبوقاً بمصر التي حلّت أولاً على القائمة بتسجيلها تضخماً بلغ 36%.
وسبق أن أظهرت نتائج مسح أجري عن “التغذية في لبنان” بين عامي 2021- 2022، أن “3 من كل 4 أطفال، دون سنّ الخامسة، يعانون من الفقر الغذائي، مما يعني أن وجباتهم الغذائية غير صحية، إذ تضمنت نصف المجموعات الغذائية الموصى بها”.
يشمل سوء التغذية في جميع أشكاله بحسب منظمة الصحة العالمية، نقص التغذية (الهزال والتقزّم ونقص الوزن)، ونقص الفيتامينات أو المعادن، وفرط الوزن، والسمنة، والأمراض غير السارية المرتبطة بالنظام الغذائي.
وترتبط 45 في المئة تقريباً من وفيات الأطفال دون سن الخامسة كما ذكر منظمة الصحة العالمية “بنقص التغذية، ويحدث معظم هذه الوفيات في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل”.
تغيّر المفاهيم
نقل بعض الأهالي أطفالهم من مرحلة تحّمل تبعات الأزمة إلى المشاركة بإيجاد الحل لها، تقول غنوي، وذلك “عبر اقحامهم في سوق العمل، من هنا نرى أن نسبة عمالة الأطفال ارتفعت لا سيما لدى من تتناقص فرصهم في التعليم أي اللاجئين السوريين، وذلك نتيجة الثقافة السائدة أو الظروف المرتبطة بالسياسة التربوية في لبنان”.
وارتفع عدد الأسر التي ترسل أطفالها تحت سن الثامنة عشر إلى العمل، إلى نسبة صادمة بلغت 16%، مقارنة بنسبة 11% في شهر إبريل الماضي، بحسب استطلاع اليونيسف، وذلك للتمكن من الصمود، فقد غيّرت الأزمة الاقتصادية كما تشدد غنوي، من مفاهيم نظرة الأهل للطفولة “ودفعت بعضهم إلى التخلي عن مبادئ تحييد أطفالهم عن الأزمات”.
لكن بحسب ما تقوله صليبا فإن “بعض الأطفال أجبروا على العمل فيما اتخذ البعض الآخر هذا القرار بعدما عجز أهلهم عن دفع أقساطهم المدرسية”، رغم أن المادة 23 من القانون اللبناني تحظر كما تشير قصقص “استخدام الأحداث قبل إكمالهم سن السادسة عشرة في الأعمال الخطرة بطبيعتها أو التي تشكل خطرا على الحياة أو الصحة أو الأخلاق بسبب الظروف التي تجري فيها”.
كما يحظر بحسب قصقص “تشغيل الأحداث الذين يقل سنهم عن الثامنة عشرة في الأعمال التي تشكل خطراً على صحتهم أو سلامتهم أو سلوكهم الأخلاقي الواردة في المرسوم رقم 8987 لسنة 2012”.
وبالتالي أي عمل يمكن أن يؤثر على البنية الصحية النفسية أو الجسدية للطفل هو عمل مخالف للقانون بالدرجة الأولى، تشدد قصقص “عدا عن أن الانخراط في سوق العمل يحرم الطفل من حقه بالرفاهية واللعب، ويحمّله مسؤولية تفوق سنّه ما يفقده طفولته وحقوقه”.
تأثيرات بالغة
كشف استطلاع اليونيسف كذلك، انخفاض الإنفاق على العلاج الصحي لدى 8 من كل 10 أسر (أي 81% منها) بعدما كانت النسبة لا تتعدى 75% قبل ستة أشهر.
يذكر أن الفقر أجبر عدداً من اللبنانيين على استجداء استشفاء وطبابة أطفالهم من خلال اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي والجمعيات، لكي لا يحرموا من حقهم بالعيش من دون ألم ومعاناة وخطر مفارقة الحياة.
استجداء اللبنانيين لا يقتصر على محاولتهم تأمين فاتورة استشفاء أطفالهم، بل منهم من يعجز حتى عن شراء الأدوية لهم، بعد أن وصل سعرها مع رفع الدعم عنها إلى مئات الآلاف لا بل حتى ملايين الليرات.
الحرمان وعدم اليقين يؤثران بشكل كبير كما ورد في تقييم اليونيسف على الصحة النفسية للأطفال، حيث أفادت 4 من كل 10 أسر تقريباً (38 في المئة) عن معاناة أطفالها من القلق، وتحدّثت 24% من الأسر عن معاناة الأطفال من الاكتئاب بشكل يومي. وأشارت الأرقام الإجمالية في بعض المناطق إلى أن الواقع أكثر سوءاً.
ففي جنوب لبنان، أفادت 46% من الأسر بأن أطفالها يشعرون بالقلق و29% يعانون من الاكتئاب، وفي النبطية، أبلغ الأهل أن 46% من الأطفال يعانون من القلق و33% من الاكتئاب.
وفيما يتعلق بالأطفال من اللاجئين الفلسطينيين، ظهر أن حوالي نصفهم يعانون من القلق و30% من الاكتئاب، وأشار التقييم إلى معاناتهم من الآثار العاطفية التراكمية.
وشرحت اليونيسف أن “الظروف المعيشيّة السيئة والاشتباكات بين الفصائل في مخيمات اللاجئين، وحالة عدم اليقين في شأن ما يخبئه المستقبل، كلها عوامل تعرّض الصحة النفسية للأطفال الفلسطينيين للخطر. إلى ذلك، تترك الصوّر والمشاهد والأخبار الدائمة التي يتابعها الأطفال يومياً عن معارك غزّة والضفة الغربية، وعن أحباء نزحوا أو أصيبوا أو قتلوا، بالغ الأثر فيهم”.
شركاء المسؤولية
الشراكة السلبية التي يدخلها الأطفال إلى دورة الحياة من خلال تحمل تبعات الأزمة والمخطط العلاجي لها، تؤثر عليهم بشكل مباشر بحسب غنوي “حيث تصادر بعض جوانب طفولتهم، رغم أن الأصح أن يكون الطفل شريكاً جزئياً في تحمل الأزمات بما لا يمس بمصلحته الفضلى ونموه وسلامته الذهنية”.
مشهد طفل يراقب آخراً يشتري ملابس العيد أو هدية أو يحمل حقيبة مدرسية في حين هو محروم من ذلك، قاس جداً، تقول صليبا.
وشددت على أن الأهل “لا يتحمّلون “مسؤولية ما يعانيه أطفالهم، بل هم محبطون لعجزهم عن تأمين ما يحتاجه صغارهم، إلا أنه يقع على عاتقهم إيجاد بدائل لهم عبر متابعة تعليمهم في المنزل واللعب معهم وإيلائهم وقتاً واهتماماً أكبر مع محاولة تقديمهم شرح مبسّط لحقيقة الوضع وطمأنتهم بأنها مرحلة وستنتهي، مع رفض انخراطهم في أي عمل لتجنيبهم التعرض لأي نوع من الأذى النفسي أو الجسدي”.
كذلك على الأهل بحسب صليبا “تجنيب أطفالهم مشاهد وأحاديث الموت والحروب والدمار، من خلال تقليص ساعات جلوسهم أمام شاشة التلفاز والهاتف، فخوف الصغار من مواجهة ذات المصير يشكّل ضغطاً إضافياً عليهم ويتسبب بتداعيات نفسية كبيرة على المدى البعيد”.
وعلى الجمعيات التي تعنى بالأطفال تكثيف التشبيك فيما بينها كما تشدد رئيسة جمعية “لأجل الإنسان” وذلك “للوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الأطفال، بهدف التخفيف من تداعيات الأزمة عليهم، وتبقى السلطة السياسية المسؤولة الأولى عن إيجاد حل للأزمة ووضع خطة طارئة للقضاء على الطبقية وتأمين الحد الأدنى من الحقوق الأساسية للأطفال”.
ولإنهاء معاناة الأطفال في لبنان، حثّت اليونيسف الحكومة اللبنانية على إظهار التزام واضح ببنود اتفاقية حقوق الطفل واتخاذ إجراءات حازمة لدعمهم وحمايتهم وضمان حصولهم على الخدمات الأساسية، مشددة على أن “إهمال الأطفال اليوم سوف يتجلى حتماً في مستقبل ضعيف ومتعثّر للبنان”.