مشاعرنا صادقة في ذكرى الجلاءين
كان ينبغي أن نحزن يوم غادر الفرنسيون. على الرغم من أنّ من عملوا على مغادرة الفرنسي؛ كانوا يرونه مجرّد بندقية، وحاكم غير مسلم.
فمن تابع الدراما السورية التي تناولت أيام الانتداب الفرنسي، يدرك أن أقصى عيوب ذلك المحتلّ الفرنسي؛ كانت أنّه كان غريباً، لا يشبه أهل تلك الحارات، وأن من تعاونوا معه كانوا من أصحاب الوعي المتقدّم بإقرار تلك المسلسلات وكتّابها.
لم يعمّم المحتل الفرنسي الرشاوي ولا الفساد، وكان المرتشي في باب الحارة أبو جودت وأمثاله في باقي المسلسلات التي حاكت تلك الفترة وما حصل فيها.
إن الاختلاف الديني ليس مبرّراً للمعاداة ولا للكراهية.
غير أنّ بقايا العثمانيين أيّامها أرادوا الانتقام لتجربتهم التي سقطت، وعلى رأس تلك البقايا جماعة الإخوان.
رحلت البندقية الفرنسية وظل وراءها طرقات ومدارس ومباني حكومية وجسور وكتب وثقافة موليير وهيغو وفولتير وساتر وجان كوكتو، وشارزل أزنافور، وجاك بريل وداليدا وغيرهم.
رحلت تلك البندقية التي كانت تذخر طلقة بعد طلقة، وبقي بعدها ما ذخر أرواحنا بالامتنان لما قدمته التجربة الفرنسية للبنان، من المزيد من المدنية والثقافة والتحضر. ذلك الامتنان الذي نتج عن بشاعة الآخرين الذين عرفناهم لاحقاً.
أتانا محتل آخر من الشّرق يصلّي عسكره كما نصلي نحن المسلمون الأوقات الخمسة، ويصوم كما نصوم رمضان، ويحتفل مثلنا بالفطر، والأضحى.
ولو أرادت الدراما اللبنانية أن تعكس واقع ذلك الاحتلال، لرأينا آلافاً من مسلسلات القهر والإذلال والتهريب والتجارات الممنوعة.
مسلسلات تعرض بكاء وصراخ وعويل أطفال وأمّهات وأبناء وزوجات من قتلوا أمام أعينهم، وآلاف ممّن ما زالوا وإلى اليوم ننتظر عودتهم من السجون والمجهول الذي حملهم إليه ذلك الاحتلال.
ولو أردنا إقامة تمثال لشهداء الحرّيّة بسبب الحتلال السوري، لما اتسعت الساحات وإلى اليوم.
رحل المحتل السوري، وترك فينا الرشاوي والمال السياسي الذي أفسد انتخاباتنا، والواسطة التي أوصلت رئيس الحكومة والوزير والنائب والضابط والجندي والدركي، ومنحت العديد من التافهين دكتورا جامعية وقدمتهم إلى الصف الأول في المجتمع.
رحل ذلك المحتل وترك فينا عشرات النسخ على شاكلة غازي كنعان ورستم غزالة وجامع جامع وعبدالحليم خدام ومصطفى طلاس وغيرهم.
رحلت بندقية الكلاشنكوف وتركت فينا علي الديك وحسين الديك، وغيرهم ممّن أهانوا الموسيقا وقتلوا الجمال والإبداع.
رحل مركز المخابرات السوري وترك بيننا مخاتير وبلديات ومدراء مدارس ووزراء وحكومات على شاكلة أبي جودت والمساعد جميل وغيرهم.
أفلا يحق لنا أن نحزن على رحيل الفرنسي، وأن نفرح لرحيل السوري الذي لا زال وإلى اليوم يسقينا مرارة تجربته المقيتة؟
نعم نحن نحزن لجلاء ونفرح للآخر، كما إنّ مشاعرنا صادقة في ذكرى الجلاءين.