ملفٌّ يشغل بيروت وكواليسها.. ما علاقة الفاتيكان؟
شهدت الأنديةُ السياسية ووسائل الإعلام في بيروت “مناقشاتٍ حاميةً” حول دور الفاتيكان حيال الأزمة الـ “ما فوق عادية” التي تجتاح لبنان، وموقفه من قضايا ذات طبيعة جوهرية في البلاد.
واحتدمت هذه المناقشات التي خرجت من خلف الستائر إلى وسائل الإعلام مع الزيارة التي قام بها أخيراً رئيس الجمهورية ميشال عون إلى حاضرة الفاتيكان، وخصوصاً في ضوء تصريحات أدلى بها من روما.
والأكثر إثارة في تلك المناقشات كانت التأويلات الكثيرة لموقف الفاتيكان من “الحزب” و”تحالف الأقليات” وما شابه من قضايا بالغة الحساسية في بيروت المنقسمة دائماً على نفسها ولا سيما مع المواجهات الكبرى في المنطقة.
قبل نحو شهرين، حلّ وزير خارجية الفاتيكان المونسنيور بول غالاغر ضيفاً على بيروت في مناسبة مرور 25 عاماً على زيارة البابا يوحنا بولس الثاني للبنان. خلال وجوده التقى غالاغر المسؤولين الرسميين وعَقَدَ سلسلة لقاءات بعيدة عن الإعلام مع أساقفة وشخصيات مدنية وسياسية وروحية.
بعد اللقاءات تَسَرَّبَتْ معلوماتٌ حول ما قاله غالاغر في شقيْن، واحد يتعلّق بحضّه الكنيسة على التصرّف بمسؤولية مع مجتمعها في المجاليْن الإجتماعي والإنساني، وآخَر سياسي يتّصل بدور المكونات الأساسية في لبنان ومسؤوليتها. وهنا بيت القصيد، إذ ان كلام غالاغر الذي تَسَرَّبَ حول “الحزب” وإعتباره جزءاً أساسياً من مكونات الشعب اللبناني وضرورة الحوار معه وطمأنته أثار جواً متناقضاً.
ففريق رئيس الجمهورية ميشال عون وحزبه “التيار الوطني الحر” سارعا إلى تَلَقُّف الجو الذي أشيع، وإعتبر انه يصبّ في الخانة التي يروّج لها عون منذ عودته إلى لبنان من منفاه الباريسي قبل 17 عاماً، أي المسيحية المشرقية وحلف الأقليات. وبدا التيار الوطني كأنه ينسج رواية عن الجو الفاتيكاني يصب في خانة “تفاهم مار مخايل” (التفاهم الذي ابرم بينه وبين الحزب عام 2006) وصولاً إلى ما يتصل بمكانة رئيس “التيار” النائب جبران باسيل في السباق إلى إستحقاق رئاسة الجمهورية.
وتَعَزَّزَ هذا الجو بعد طلب عون زيارة الفاتيكان للمرة الثانية في عهده. علماً أن السفير اللبناني في الفاتيكان الدكتور فريد الخازن قريب من رئيس الجمهورية وكان عضواً في تكتل “التغيير والإصلاح”، الذي رأسه عون سابقاً، وجرى التلميح من أفرقاء معارضين لهذا التوجه انه هو وراء الترويج للفكرة الفاتيكانية التي عبّر عنها غالاغر.
الفريق المُعارِض لعون والمؤيّد لطروحات البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي، تعامل مع القضية من باب النفي المطلق لها، على إفتراض ان الفاتيكان الذي دافع دائماً عن حرية لبنان وإستقلاله لا يمكن أن يكون مع وضعية “الحزب”، ولو ان هدف الفاتيكان الحوار معه لإبعاده عن إيران. وإستشهد هؤلاء بأن زيارة البابا إلى المرجعية الشيعية في العراق آية الله السيستاني كانت واضحة في مغزاها، وبأن الفاتيكان لا يمكن أن يكون مع حلف الأقليات في المنطقة.
تراجعتْ قليلاً الضجةُ الإعلامية حول حقيقة الموقف الفاتيكاني، قبل أن تتم زيارة عون للكرسي الرسولي، والتي تَسَرَّبَ خلالها كلامٌ حول دعوة الفاتيكان إلى حوار مع “الحزب”، وان سلاح الحزب في أيدي مجموعة لبنانية تشكل جزءاً من النسيج اللبناني. وتَزامَنَ هذا الجو، مع كلام صريح قاله رئيس الجمهورية في حوار مع صحيفة إيطالية إعتبر فيها ان “الحزب ليس إرهابياً، ومقاومة الإحتلال ليست إرهاباً، وان ليس للحزب تأثير أمني على الداخل اللبناني”. وبدأت إثر ذلك حملات إعلامية متضاربة، فالمعارضة هاجمت عون، وإتهمتْه بأنه ينسب إلى الفاتيكان كلاماً لم يقله الكرسي الرسولي ولا يمكن أن يقوله، وبأنه يغطي “الحزب” رغم كل الخلافات التي تدور حول دوره الأمني في الداخل.
فتح ما أثير حول موقف الفاتيكان سيل التعليقات السياسية والإعلامية، وتوالت الأخبار، والتكهنات والمعلومات بإزاء حقيقة هذا الموقف، وحول ما جرى في السفارة البابوية حيث قيل إن لقاء عُقد بين “الحزب” وغالاغر، ومن ثم جرى الحديث عن طلب الفاتيكان من بكركي (البطريركية المارونية) إعادة فتح قنوات الحوار مع الحزب، ليتم بعدها تداول كلام عن مسؤولية فرنسا عن دفْع الفاتيكان إلى إتخاذ خيارات لم يتعوّد عليها اللبنانيون من جانب الكرسي الرسولي. في وقت أثيرت أخبار عن أن إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تنسق منذ أشهر مع “الحزب”، وإستقبلت أخيراً وزير الأشغال الذي يمثّله في الحكومة ويحمل الجنسية الفرنسية.
ورغم ان الفاتيكان يمتنع عادة عن التعليق على أي معلومات تتناوله، إلا أن حملة المعارضة إستندتْ في ما تقوله إلى أوساط قريبة منه تحدثت عن سياسته المحايدة وعن أنه لا يمكن ان يوافق على وجود سلاح خارج الدولة وانه مع الوحدة الاسلامية – المسيحية، ويؤيد أي حوار داخلي وليس خارجي، شرط ان توافق عليه جميع المكونات اللبنانية من دون إستثناء. ورغم التأويلات، والإيحاء بأن الفاتيكان سيُصْدِر توضيحاً، إلا أن ذلك لم يحصل، وهو أمر تعوّدت عليه دوائر ديبلوماسية فاتيكانية. لكن في المقابل، فإن فريق رئيس الجمهورية يستفيد إلى الحد الأقصى من كل ما يدور حول هذا الملف، لأنه يعطي إنطباعاً ان الفاتيكان متجاوب مع طروحاته.
صودف تَفاعُل هذا الجو، وزيارة عون إلى الفاتيكان، مع جولة البطريرك الماروني في مصر والجامعة العربية. والراعي الذي كان دعا إلى مؤتمر دولي حول لبنان وطرح فكرة حياده، أعاد طرح هذه الفكرة، رغم أن غالاغر كان عبّر في بيروت عن تحفُّظ الفاتيكان على هذا الطرح الذي لا يراه مُناسْباً في الوقت الراهن وغير قابل للتحقيق. وهذا يثير تساؤلات حول ما ستؤول إليه الأمور، وما إذا كان الفاتيكان طلب حقاً من بكركي إقامة حوار مع الحزب، علماً ان بكركي سبق أن تحاورت مع الحزب عبر لجنة خاصة، وسبق للراعي أن زار الضاحية الجنوبية والتقى الأمين العام لـ”الحزب” السيد حسن نصرالله. لكن اللقاءات والإتصالات توقفت، وكان الحزب مستاءً من تصريحات الراعي في ما خص سلاح المقاومة.
بعد “القيل والقال” حول رؤية فاتيكانية للبنان والحوار مع “الحزب” وردود المعارضة، يسود ترقُّب للخطوة التالية التي سيتبيَّن معها الخيط الأبيض من الأسود في ملفٍ يشغل بيروت وكواليسها منذ أسابيع.