“من بيت الطين إلى عنّايا” للروائي عمر سعيد

.. بتّ في جبيل، في بيئة أعدائنا المسيحييّن، في بيت نصرانيّ، كما يسميه خطيب الجمعة في قريتي. بيت نذرت ابنته الوحيدة نفسها لكنيسة في بيت لحم.

بتّ هناك أنا القادم من قرية كانت معقلًا للبنادق الّتي هتفت لفلسطين، وتوجّهت إلى صدور النّاس في وطني.

جلست إلى مائدة ضمّت صديقي حارث وأمّه وأباه، يصلّون صلاتهم المسيحيّة:

“لك المجد والتّسبيح والبركة والشّكر على كلّ ما أعددت لنا من طعام”.

أمّنت وراءهم، ثمّ قلت: بسم اللّه، وبدأت أتناول طعام النّصارى، أولئك الّذين خطّط أهلي لرميهم في البحر، وطردهم من لبنان.

جلست إلى مائدتهم أنا ابن بيئة ربتني على أنّ موالاتهم كفر، وطعامهم حرام، والعيش معهم مستحيل، وأنهم قوم لا يعرفون الطّهارة ولا الحلال ولا الحرام.

كان اللّه في قريتي منّا ولنا وحدنا دون سوانا نحن الساعون إلى حورِ العين.

شبعت من ابتسامات أمّ صديقي، ومن دفء قلبها ووجهها أضعاف ما شبعت من طعامها.

كانت ترجوني أن آكل، والدّمع في عينيها. تقدّم لي اللّقمة، وتسأل اللّه أن يحنّ على ابنتها الرّاهبة في بيت لحم.

كنت آكل رزقي كما قالت:

“هذا الأكل من اللّه مش منّا، واللّه قسمه لك مش نحنا، ليك منين اللّه بعثك؟”

كان والد صديقي حارث هادئًا، يصغي.. سألني بعد أن ساد الصّمت:

لوين بدك تفل يابني؟!

قلت: إلى قبرص!

قال: ومن هونيك؟!

سكتُّ عاجزًا. لم أكن أملك إلا الخمسمئة دولار الّتي استدانها أبي لأجل رحيلي، دون أن أعرف إلى أيّ جهة سأرحل!

التقط الأب ما خلف عجزي، وقال:

“لتكن مشيئتك يارب كما في السّماء كذلك في الأرض”

لم أنم ليلتها. أخفيت وجهي ودموعي عن صديقي تحت الغطاء.

تمنّيت من كلّ قلبي أن يطلبوا مني البقاء بينهم، وألّا أسافر.

في الصّباح حملت حقيبتي. وضعتها خارج باب البيت، ووقفت أنتظر، وأفكّر ماذا عليّ أن أفعل؟ أأشكر أهل هذا البيت، أم أودّعهم؟! أم أصافح بصمت، وأغادر؟!

عانقني حارث، وتمنّى لي التّوفيق، فيما وضع الأب كفًه على كتفي، وتمنّى أن يكون اللّه معي. خرجت أم حارث من الدّاخل، تحمل بيدها كيسًا صغيرًا. مسحت دموعها، ابتسمت، ثمّ نظرت في عيوني، وقالت:
لفيّت لك عروستين، بيسندو قلبك بس تجوع ع السّفينة، وحطّيت لك صبونة من شغل بيتنا، من زيتوناتنا، ريحتها بتشهّي. حطّن بشنتك.

ثمّ ناولتني الكيس وغصّت بالبكاء.

غادرت أحصي المحطّات الّتي عليّ أن ألوح فيها لمن يشعلون المحبة فينا بمناديلهم البيضاء نحن الغرباء في هذه الأرض.

تمنّيت في نفسي لو أنّي تعرّضت للقنص، حين نبّهني عمّي أبو سمير، وما حملت في ذاكرتي مشهد حارث وأبيه وأمّه، يقفون على حافّة حائط حديقتهم العكش، يلوّحون لي بأكفهم، ويمطرونني بالحبّ والدّعاء والتّسهيل.
أدرت ظهري، ومشيت أبكي، وأتهدّج كما لو أنّي ما ودّعت أحدًا من قبل.

حين جعت فتحت كيس أمّ حارث. وجدت فيه سبحة خشبيّة، في شرابتها صليب صغير، وكتيب تحصين يحمل غلافه صورة العذراء.

لففت السّبحة على سوار يدي، ووضعت الحصن في جيب صدري، ورحت آكل، وأتناول ابتسامات أم حارث، وأضيء بها عتم ليلي البحري البارد.

يتبع…

زر الذهاب إلى الأعلى