لنعترف. تتنازع المسيحيين اتجاهات فكرية متعددة. سأتناول اتجاهين كبيرين في الرأي العام المسيحي، يمثلهما شخصان هما سمير جعجع وميشال عون.
في البدء:
- وقعت الحرب اللبنانية، فغامر سمير جعجع بمستقبله كطبيب، مع ما تعني مهنة الطب في لبنان من رخاء مادي ومنزلة اجتماعية، وخلع الرداء الأبيض مرتدياً “الزيتي”.
- في هذا الوقت كان ميشال عون ضابطاً ضامناً لاستقرار مادي طويل الأمد، في مؤسسة معروف عنها الاستقرار الوظيفي والمُكتسبات، والتعويضات الجزيلة.
ثم: - بينما كان عون ضابطاً في الجيش، ومستشاراً في القوات اللبنانية الممثلة ببشير الجميل آنذاك، كان جعجع، مُستهدَفاً من أعداء القوات اللبنانية، بسبب المعارك التي خاضها بطلب من بشير، ثم بطلب من القيادة، ومُحاصراً من تجاذبات الصف الواحد.
- جاء يوم وجلس الاثنان إلى طاولة واحدة في سيدة البير، والقطارة. وبإشراف من بشير، شارك جعجع وعون في خلوات مختصرها: هل يجب أن يصل بشير إلى الرئاسة بانقلاب عسكري؟ وهذا يعني أن ميشال عون العسكري، كان يبحث كيف ينقلب على “الشرعية” التي أعطته سيفاً ونجوماً على كتفيه.
ما الذي جمع جعجع وعون بإشراف بشير؟
- رفضُ صيغة 43. رفضُ الوجود المسلح الفلسطيني، ودخول لبنان في المداخل الخاطئة للصراع مع إسرائيل. الاثنان من عائلة متوسطة الحال. والد سمير عسكري عادي أيضاً، ووالد ميشال صاحب ملحمة. مسيحيان. ترعرعا في الضاحية الجنوبية المسيحية لبيروت: عين الرمانة الشياح حارة حريك…
الاختلافات:
- هو الخلاف بين طبع المناضل “سمير”، والعسكري “ميشال”. المناضل يتحرك من عمق معتقداته. العسكري تحركه “المستجدات”. لو كان ابن نعيم بطبعه “مناضلاً”، لما انتسب، أو لاستقال من الجيش، واندفع في الخيارات السياسية. لو كان ابن فريد بطبعه “عسكرياً”، لدخل إلى “الكلية الحربية”، لا إلى كلية الطب.
- والخلاف أيضاً في الطَبعين الاجتماعي والنفسي. شابت علاقة ميشال بأبيه نعيم “تشنجات”. “الطبع الأوديبي” ظهر بوضوح عند الضابط: قتلُ الماضي الذي يُمثله الأب، وجلبُ “صيغة43” إلى السرير واغتصابها. فصيغة 43 هي “الأم السياسية”، والمجهولة التي لم يعرف ميشال عون أنها جعلته ضابطاً في كنفها.
- كان سمير فخوراً بمسيرة أبيه فريد، ولكن “الطبع الثوري”، جعله يرفض واقع الأب والماضي، وأراد كما أراد بشير “قتل الصيغة ووضع حراس على قبرها” لا الانتقام منها، باغتصابها في سرير السلطة.
- على الشاب سمير يسيطر: القلق. الحذر. عدم الشعور بالأمان. ميشال الضابط، مرتاح أكثر. هو يحصد منافع “الصيغة” ومساوئها. ومكانه محفوظ إذا انقتلت. بعكس سمير فهو ثائر عليها، والرهانات الأخرى ليست مفروشة بالورود.
- دارت الأيام، وصحت التوقعات. أبن “الصيغة”، حصد مغانم “الصيغة”. بسببها هو ضابط. بسببها هو معاون للرئيس المقاوم الآتي. بسببها هو عقيد وعميد. وبسبب مساوئها قذفته المصادفات إلى قيادة الجيش. ثم إلى حكومة عسكرية. كل شيء جاء على طبق من المصادفات المأسوية للأنظمة المُهترئة.
- وضع “المناضل” سمير، كان طريقاً مليئاً بالأشواك. كل مرتبة في مسيرته، انتزعها بأظفاره. بلحمه الحي. وتحت وابل من المكائد والمكامن ومحاولات الاغتيال. وبكمية كبيرة من الأعداء والخصوم. عند الاستحقاقات الكبيرة، سمير مضطر أن يكون أول المُقاتلين والمُواجهين. عند تلك الاستحقاقات ذاتها، كان عون يتفرج وينتظر. وينسج علاقاته مع جعجع، وفي الوقت ذاته فاتحاً “القنوات الخلفية” مع الخصوم والأعداء. وهكذا كيفما تنتهي نتيجة المعارك، سيجد عون لنفسه مكاناً متقدماً. من الأمثلة: أقام علاقة وثيقة بنظام حافظ الأسد، يوم كان قائداً للجيش بإمرة الرئيس أمين الجميل. شارك في كتابة الشق العسكري “للاتفاق الثلاثي” السوري. عون كان الرابع في “الاتفاق الثلاثي”. غَضَّ النظر، ووعَدَ بعدم التحرك، حين هجوم حليف سوريا، إيلي حبيقة، على معقل أمين الجميل. غَضَّ النظر ووعد بعدم التحرك، لا بل نسَّقَ مع جعجع، تعطيل جلسة انتخاب الرئيس سليمان فرنجية الجد، رئيساً للمرة الثانية، ثم قام بعراضة عسكرية غير لائقة. غضَّ النظر ووعَدَ بعدم التحرك عندما حاول حبيقة وفصائل حليفة لسوريا اختراق الأشرفية، في محاولة إطاحة جعجع. غض النظر، ووعد بعدم التحرك عندما أسقط جعجع “الاتفاق الثلاثي”، ثم تدخل لمنع وقوع حبيقة بين يدي جعجع والجميل. وفي كل مرة طلب من الجنود إطلاق المدافع تذكَّر العاقلون قول كليمنصو:الحرب مسألة خطيرة، يجب أن لا نَعْهَد بها للعسكريين”. مثلاً “حرب التحرير”، كانت كناية عن قصف مدفعي. لا أكثر ولا أقل. قَصَفَ وخَطَبَ في الناس والإذاعات، وانتظر أن يتحرك العالم من أجله.
- حتى في التفاصيل. عند خصومه، جعجع في مقدم المقاتلين في المعارك الحربية. مصاب بيده وكتفه في إهدن وفي حرب الجبل. يُعتقل ولا يهرب من غدراس. أما عون فصورته الراسخة في ذهن خصومه: خوذة وسترة مضادة للرصاص، بعيداً من الجبهة. وحذاء مدني على لباس عسكري. واتقاء حجارة النسوة على مفترق عاليه. وركوب الملالة إلى السفارة الفرنسية.
لماذا؟ - لماذا عون أكثر انتقاداته وتهجماته وحملاته الإعلامية على القوات اللبنانية تتركز على إنهم “ميليشيا”، “يقتلون”، “يسرقون”، “زعران”، “خونة”؟ يعود هذا المنوال إلى سببين:
1- في قرارة نفسه يعلم عون أن القضية المسيحية كوجدان، موجودة عند “القوات اللبنانية”، وأنها سليلة التاريخ المقاوم للمسيحيين. من هنا الحقد عليها. هو كان دائماً “رد فعل” عند الذين أيدوه صادقين. ومُستودع “الحردانين”، والمطرودين من مؤسسة القوات، ومن لم يجدوا مكاناً لهم فيها، يُضاف إليهم بقايا خصوم الكتائب والقوات، في لعبة السلطة بين الأحزاب المسيحية. عندما أعلن حقده على القوات اللبنانية في الثمانينيات، رفع مرة كُتيب “نحن والقضية” للقوات اللبنانية. أراد القول “أنا قائد المقاومة اللبنانية الجديد”. ولكن للدخول إلى الوجدان شروط، ولا يكفي تشويه السمعة والصورة للقوات. وأثبتت الوقائع أن من حاول الإيحاء بأنه “مقاوم لبناني”، تحالف مع “المقاومة الإسلامية”، وصادق النظام السوري عندما وجد مصلحة عابرة. موقفه من النظام السوري، مُضحكٌ مُبكٍ. هو يقول “أنا كنت ضد النظام عندما كان يحتل لبنان، أما وقد عاد إلى سوريا، فلا موجب للخصام”! بمعزل عن بقاء النظام بالواسطة، والأزلام، تصوروا أن يقول الفرنسيون بعد انسحاب هتلر من فرنسا، حسناً لقد انسحب، فلنمد له يد الصداقة، ولا موجب لمحاكمة الجنرال بيتان! وتمادياً في “تصغير القضية” ربط عون رقبته بحبل المطالبة “بحقوق المسيحيين” في الوظائف. غفل عن أن الوجدان المسيحي لا يُكتسب بالوظائف الكثيرة بالدولة، هذا تصغير وتشويه للقضية المسيحية. بدليل ما يُقال له من أكثر من طرف هذه الأيام: عندك نواب ووزراء وموظفين ورئاسة الجمهورية وتحالفات طويلة عريضة، وها نحن في أسوأ حال منذ 1920! ليس “للعونية” شهيد واحد منذ وجدت “العونية”. على تضحيات شهداء القوات اللبنانية، وشهداء الجيش اللبناني أيام قيادته له، أراد بناء سلطته. لا يوجد “للعونية” “غابة شهيد”. لا مكان “للعونية” في قنوبين، في إيليج، في بيت الكتائب بالأشرفية، في طبرية. لا يوجد، عندهم لا وليم حاوي، ولا بشير، ولا كيروز بركات، ولا ديب مطر، ولا كرم صدقة، ولا رمزي عيراني. إذا أراد صهر عون وضع إكليل من الزهر، أين يضعه؟ لن يجد قبراً ليضعه. سيضعه على “لوحة حجر” لـ”13 تشرين”، على “نصب” “للجندي المجهول”، وهو مجهول فعلاً، فشهداء الجيش مُلك “الوطن الحالي”، وليسوا مُلك “القضية اللبنانية”.
2- “عقدة أوديب” تضرب من جديد، “الأم السياسية الأولى” أي صيغة43، أوصلته إلى المناصب، وقتلها في “اتفاق الطائف”. وهذه المرة وفي كل مرة، المطلوب “قتل” ماضي القوات وإرثها، وجلب “قضيتها” إلى السرير لاغتصابها، ليتحول “أوديب ملكاً”. ولكن هذا “الأوديب الرئيس”، أسدلت رئاسة الجمهورية الستارة على مسرحيته. ها هو مكروه ومرذول من مسيحيين ومسلمين، يفوق عددهم يوم اعتبره مسيحيون ومسلمون “خشبة خلاص”.
3- عقدة الاضطهاد، وجنون العظمة متلازمان في المعتاد. “قضية عون” كبيرة، ومفعمة بالشعارات إلى درجة توجب وجود أعداء كونيين. مؤامرة دولية. العالم ضدي. تعاطفوا معي. أنا أحمل أحمالاً ثقيلاً عن شعب لا يعرف ما أُعانيه”. الإعلام متحامل. ذئاب السارقين والفاسدين تنتظر أن تفترسني… هل سمعتم مرة بشير أو سمير أو كميل شمعون أو بيار الجميل يتاجرون بهذا النَفَس السياسي؟ تعرض كميل وبيار لمحاولات اغتيال عدة، ولا مرة تاجروا أو حتى ذكّروا بها. عندما فجّر إيلي حبيقة، حليف عون في الاتفاق الثلاثي، مقر الجبهة اللبنانية وجُرح شمعون الرجل الثمانيني، قال: “هاتوا قلماً وورقة لنُكمل البيان”، وكتب ما معناه “لن نرضخ للاتفاق الثلاثي”. من فيلا في المنفى، إلى فيلا في الوطن، إلى قصر تنقَّلَ الناقم. وقال للناس هاجروا أو أُهاجر، تلك هي المسألة. ومن قصر إلى شقة ليست له، بقي شمعون بطريركاً سياسياً و”فخامة الملك”. تخبرني قريبتي الراهبة التسعينية التي كانت تُعاون السيدة الأولى زلفا شمعون الأرستقراطية، أنها دخلت عليها مرة إلى غرفة النوم ووجدتها جالسة على السرير ترتق بيديها “كلسات الرئيس شمعون”. كانت أيام.
العبرة:
سيترك عون قصر بعبدا، ويُذْكَرُ عسكرياً على شاكلة الديكتاتوريين في أميركا الجنوبية، يصفّق لهم كثيرون قبل أن يكرهوهم لأنهم لم يفعلوا شيئاً مفيداً. هذا العسكري لن يُذكر بالخير كالأمير واللواء والرئيس فؤاد شهاب. سيضعه التاريخ قرب إميل لحود.
النهاية:
مما لا شك فيه أن “نزعات عون” موجودة في نفوس وعقول رأي عام مسيحي عريض، وإلا لما حصد هذا الرجل هذه الشعبية. الشعب الألماني برغم كل مستواه في العلوم والفنون، صفق لهتلر، واليوم يضع الألمان هذا الديكتاتور في أسفل درك. “ونترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي. آمين”.