موسم الهجرة الى الموت
دكتورة أصالة لمع
من خلفهم الأرض احترقت حتى آخر شبر حولهم ومن أمامهم البحر، يسيل لعابه لوجبة جديدة من الأحلام المنكسِرة والشعوب المحطمة.
هكذا، ركبوا زورقاً كمن يرمي النّرد، متأرجحين بين موتهم وموتهم… شخصوا بعيونهم إلى مكانٍ بعيد، لا لهاثاً خلف حلمٍ أو طموح، بل طمعاً بالبقاء فقط، هرباً من الحياة التي تأتي على شكل موت.
تأرجح الزورق النرد على موج الاحتمالات المفتوحة، والحياة التي على الضفة الأخرى بدت فجأة بعيدة، بعيدة…
خرج الموت من الظلام، بوجه يشبه وجهه الذي كانوا يلتقونه كل يوم، بوجهه الذين كانوا هاربين منه، خرج وابتلعهم…
وفي الصباح، صاروا خبراً…
صاروا تحقيقاً مفتوحاً… في البلد المفتوح على البؤس والذلّ والظلم والموت.
هكذا بكل صفاقة الواقع، صاروا ضحايا يغرقون قبالة ميناء طرابلس وهم يحاولون الهرب بطريقة غير شرعية”.
هكذا، يموت الآباء وتموت الأمهات ويموت الأطفال، وتصير العائلات أخباراً في الصحف تكتب بـ”موضوعية” رديئة وغير أخلاقية.
هكذا بكل عبثية الأقدار البائسة، “يهرب” الناس إلى حتفهم، ويصيرون مجموعة أشخاص ماتوا بالصدفة وهم يخالفون القانون.
لا! هم ليسوا “أرقاماً يغرقون قبالة ميناء طرابلس وهم يحاولون الهرب بطريقة غير شرعية”.
هم ضحايا تمارس ضدهم منذ سنوات أشكالاً لا تحصى من التنكيل والإذلال والفساد الذي عاث في كل مكان. هم ضحايا مجموعة جرائم تم ارتكابها مع سابق الإصرار والتصميم على مدى سنوات وسنوات.
وهم أيضاً ضحايا الجهل، الجهل الضارب جذوره في هذا المجتمع كعشبة ضارّة، كسمٍّ في بئر يشرب منها الجميع.
هم ضحايا كل من رضي بهذا الذل… كل من يدافع عن منظومة فاسدة أدت إلى انهيار بلد كامل على دفعات حتى هذا الانهيار النهائي التام.
هم ضحايا كل من يفتقد الحياء وهو يخوض بسجالات وضيعة لا زالت تؤله الزعيم و”تشخصن” كل شيء، وتردّ بالتخوين وبالاتهامات على كل من يطالب بالثورة، بالتغيير، بالقانون، بالتشريع، بالحقوق، بتساوي الفرص، بالضمان الاجتماعي، بالبنى التحتية، بالنقل العام، بالتعليم الرسمي، بالكهرباء وبالكثير من الأشياء الأخرى، الأشياء الأساسية والعادية قي كل مكان آخر، الأشياء الضرورية لإنسانيتنا، لكرامتنا، لحاجتنا لوطن ومواطنة، لمكان ننتمي إليه ولا نُهَجّر منه بأي طريقة، لا هجرة طبيعية، ولا موتاً في زوارق تعب البحار كيفما اتفق بلا وجهة واضحة!
كنت أراقب بصمت وذهول ما يحصل على هامش الانتخابات القادمة من نقاشات محتدمة بين من أعرفهم! أراقب فيما أتصفح رسائل الذين يتواصلون معي لتأمين أدوية السرطان المقطوعة، وانا أغرق في كل قصة حتى الوجع.
اليوم، أمام الموت الذي يتسلل من كل مسام هذا البلد…
بعض الحياء فقط يكفي لتتوقف هذه السجالات، لنحلم جميعاً ببعض الكرامة، بدولة حقوق وواجبات.
بعض الحياء يكفي، لكنه مفقود.