لطالما رأينا نحن صغار القرية أبا طحلة ذلك الزوج المسكين الذي كان يعمل في أحد المصانع بصفة خادم في الإدارة، فيقدم القهوة والشاي للزوار، وينظف المكاتب وتوابعها.
كنا نعرفه من مشيته وهو قادم من بعيد، يطوح بيديه معا يسرة ويمنة، حول بطنه المتدلي أمامه، وقد باعد بين ساقيه أثناء المشي، فيرمي قدمه إلى الخارج كما يفعل شارلي شابلن، داخل سروال يخنق خصره بحزام، تقشر جلده، وتدلى ما فاض منه على حوضه، وبسترة يزرر أسفل أزرارها، فوق قميص أبيض، حبس عنقه القصير داخل ياقته المتهرئة حوله.
يلمع شعره المجبول بالزيت، وقد لفه حول صلعته كقرص المشبك، يتقدم وجهه أنف، طالت ذؤابته، تحت حاجبين متباعدين، يكاد يحصى ما فيهما من شعر.
لطالما رأيناه يعاقب من زوجته بالصياح والشتيمة والدفع مرات، والضرب أحيانا، كلما عاد من عمله، حتى اعتدنا على نومه داخل خيمة فوق السطح من الخشب والقش والخيش، يرممها مطلع كل ربيع، لتصبح مقر مبيته حتى نهاية الخريف، وإذا سأله أحدنا:
لم تنام طوال العام فوق السطح؟!
برر ذلك بأنه يحب النوم في الهواء الطلق.
غبر أن الحقيقة أن زوجته كانت تطرده من البيت، وتحذره من الدخول إليه، فيلتزم.
كان أبو طحلة قد أخبر بعض الموظفين أنه حازم في بيته، طلباته أوامر، لا يضطر إلى تكرار كلامه، وما أن يطل على زوجته من آخر الشارع، حتى تنتظره في باب البيت، لتتجنب غضبه.
نسي المسكين مفتاح مدخل الإدارة معه، وتأخر عن العمل، فأرسل المدير أحد الموظفين بطلبه.
رآه الموظف المبتعث، يجلس خلف حوض غسيل، ويفرك بيديه ما فيه من ثياب، وإلى جانبه امرأته وجمع من نسوة الحي، يتناولن قهوة الصّباح.
سأله عن المفتاح، فنهض بعباءته النسائية إلى الخيمة، يتناول المفتاح من جيب بنطاله، والنسوة من حوله يتضاحكن.
سلم الموظف المفتاح، وغادر القرية بعباءته النسائية.
أدرك المدير سببا انقطاعه عن العمل، وعرفنا نحن الصغار سر اختفائه.
أما زوجته فقد أشعلت النار بخيمته وما فيها، وغادرت.
عندما رجع بعد غياب سنوات، وجد بيته قد تحول إلى “مخراية” كما قال أهل القرية، بعد أن قامت زوجته ببيع عفش البيت، وأبوابه وشبابيكه، وغادرت القرية إلى مكان مجهول.
كان جاره قد هد بعض الجدران ليوسع حديقته، فلم يتبق من بيت أبي طحلة إلا القليل.
قصد أبو طحلة مختار القرية ليردع الجار المعتدي.
حضر المختار، يرافقه عنصر شرطة.
وبعد مداولات تبين لأبي طحلة أن زوجته كانت قد تنازلت عن الغرفة الملاصقة لحديقة الجار، مقابل ما كانت قد استدانته منه سابقًا.
وهكذا وقع أبو طحلة على أوراق ترسيم حدود منزله الجديد، محتفظا بغرفة المؤونة والحمام الخارجي للبيت، وتعهد باقفال كل الشبابيك التي تطل على حديقة الجار.
تقاطر أهل القرية صوب صوت موسيقا، تنبعث من جهة بيت أبي طحلة.
حين وصلوا وجدوه يقيم حفلة ابتهاجًا بانتصاره على جاره.